المرأة التي ترقص مع العجاج( قصة قصيرة)


Resultado de imagen de danza saharauiاهتز روتين مخيمنا ذات يوم على وقْعِ فعلٍ غريب. كان أشبه بعاصفة في الصحراءأو بزوبعة في بحر. لم يخطر على بال احدنا، أو حتى على بال الجن، أن يحدث الذي حدث. في مخيمنا الذي يحلو لأهله التحدث عن الأخبار الملونة كالسلام، الحرب، الطلاق والزواج، قامت امرأة بفعل وُصف بالغريب. هكذا قال السكان بعد ذلك. ذات يوم صيفي، حارق، مغبر مترب اجتمع السكان في قلب المخيم اجتماعا طارئا للاستماع إلى آخر تطورات القضية الوطنية. كان كل السكان هنا ولم يتغيب سوى الشهداء. قال محمد، احد ضحايا الحرب، حين لاحظ ذلك:-" إذا كانت أجسادهم غائبة فإن أرواحهم حاضرة معنا وترفرف الآن حول المكان."
كان كل السكان في المكان: مقاتلون عائدون من خنادقهم بعد وقف إطلاق النار، طلبة يقضون عطلتهم الصيفية، نساء، أطفال. في المقدمة ميز الناس حضور أحمد الترية، موسطاش، المرأة التي تحمل دائما علما كبيرا، علي المري، سعيد ومحمد الجرحى، و طبعا العريفات.
حين كنا نتأهب لافتتاح الاجتماع، وننتظر أن يأتي الوفد الدبلوماسي الذي سيلقي المحاضرة، هب عجاج قوي مملوء بالغبار. في نفس الوقت خرجت امرأة من بين الصفوف ووقفت في نقطة المنتصف. ورغم الغبار، كشفت عن وجهها بطريقة وُصفت بالمغرية.  حين لمع وجهها تحت الشمس المغبرة، تطلعت الأعين إليها بدهشة بفعل جرأتها، وبفعل جمالها الباهر ولون بشرتها البيضاء التي لا تشبه لون بشرات نساء مخيمنا السمراوات. شع سحر غريب من وجهها وعينيها. انتشرت رائحة عطورها الغريبة في الجو فتعلقت بها العيون أكثر. عرفها الناس أخيرا. إنها مطربة المخيم التي صمتت منذ مدة عن الغناء وإحياء الحفلات، واختفت عن الأنظار. إن ظهورها بتلك الطريقة دفع موسطاش، المقاتل، إلى وصف تلك اللحظة بقوله: "إن المرأة كادت أن تنزع عيون الناس من رؤوسهم."
بدأت ترقص دون طبول أو إيقاعات. أول مرة ترقص امرأة في المنفى فوق الرمل وسط هالة من العجاج بهذه الطريقة أمام الجميع. دارت مرات عديدة وسطنا ونحن ننظر إليها صامتين. لم يتكلم أحد بفعل وقعِ الدهشة. رقصت رقصات تقليدية أبهرت عجائز المخيم. أثناء رقصها تعمدت أن تستعرض زُندها البيضاء وأصابعها الرشيقة المصبوغة بالحناء. أخذت تدور حول نفسها وترقص بإتقان، والسحر ينطلق من جسدها. بدل إن تنهار هي تحت الإعياء، بدأ أن الحاضرين هم منْ سينهار.
بدأ مقاتلو مخيمنا يتقهقرون إلى الوراء دون أن ينصرفوا عن المكان.  تجمدت عيون السكان في وجوههم، وسال الريق من بين شفاههم دون إرادتهم، وهم ينظرون إلى المرأة ترقص. كادت عيونهم- حسب ما قال الترية المقاتل- تقفز من وجوههم وتنزل على المرأة الراقصة. رقصت طويلا، وحين كنا نظن أنها ستنهار من التعب وتنصرف، بدأت ترقص رقصات عصرية مجنونة. أخذت تحرك صدرها ويديها وتغمز بعينيها وتبتسم دون أن تتوقف عن الرقص. كانت الحلقة تضيق حولها، والرجال والنساء يقتربون منها مستملحين رائحة عطورها ورشاقة رقصها. وحتى تسيل لعاب رجال مخيمنا وتحرق قلوبهم، كانت تتعمد إزاحة ملحفتها عن سيقانها.. ما يبدو أنها متمرسة وتعرف أن رجال مخيمنا يحبون السيقان المرمرية. أثناء رقصها تركت ملحفتها تنزاح عن رأسها وأعلى صدرها. كاد بعض الرجال أن يغمى عليه؛ ترنح البعض الآخر؛ انفتحت أفواه بعض النساء غيرة ودهشة. حين لاحظت هي ذلك، توقفت عن الرقص وضحكت كأنما أصيبت بهستيريا. انصرفت بغنج وسط العجاج الكثيف وابتعدت. تبعها الناس بعيونهم دون أن يصدقوا ما حدث. بقى مقاتلو المخيم في أماكنهم ينظرون إليها من بعيد. قال سعيد ومحمد، ضحايا الحرب، للناس بعد أن لاحظا ذلك:-" إن المرأة الراقصة لم تخبل الناس بجمالها لكن برائحة عطورها الغريبة." وحسب موسطاش، المقاتل، فإن انصراف المقاتلين عن متابعة المرأة مثل السكان، يرجع إلى أن رائحة الدخان والبارود لازالت في أنوفهم، ولم يتعودوا بعدْ على شم رائحة عطر في مكان تتضوع منه رائحة دخان المعركة.

ما قاله السكان عن المرأة الراقصة:
 لم يترك سكان مخيمنا الحادث يمر دون أن تلوكه ألسنتهم. تحدثوا عنه حسب طريقتهم الخاصة بعد أن عجزوا عن السكوت عنه نظرا لغرابته. أول تعليق جاء من طرف إلمرأة المشهورة بحمل علم كبير في الاحتفالات، والتي تسكن قرب المرأة الراقصة. قالت" إن المطربة، حين علمت بوقف إطلاق النار، أقسمت أن ترقص أمام أعين مقاتلي المخيم حتى تجعلهم يركعون عند قدميها وينسون رائحة البارود والدخان ويجرون وراء رائحتها." وحسب تعليق إحدى العريفات، زوجة سعيد جريح الحرب، فإن "الراقصة كانت تسحق القرنفل وتخلطه ببعض العطور الحديثة وتدهن به جسدها". نبشت عريفة أخرى تاريخ المرأة الراقصة المدفون في رمال النسيان؛ قالت أنها تعرفها قبل الاحتلال والغزو، وأنها كانت تستميل الرجال، لكن حين اندلعت الحرب نسوها ونسوا عطورها ورائحتها وامتلأت أنوفهم برائحة البارود والدخان.
لم تتمالك جدة الطفل عبدو، الرسام، نفسها، فقالت معلقة على ما فعلته المرأة الراقصة:-" لقد جاءت هذه المرأة لتغوي الرجال وتقتل النساء بالغيرة."
رأي محمود، احد الشبان الذين درسوا بالخارج المرأة ترقص أمام عينيه فلم يعرف كيف يفسر ذلك علميا. مزق شهادته العلمية، وعاد مهزوما إلى جدة الطفل عبدو المسنة لتفسر له الظاهرة بمنطقها المبني على الأسطورة. قال لها: لماذا لم تظهر المرأة الراقصة في حياة المخيم قبل اليوم، ولم يتحدث عنها أحد، رغم أنها كانت تسكن هنا.؟
- قالت له العجوز بحماس بعد أن أحست أن منطقها هزم شهادته العلمية:-" لم تظهر المرأة الراقصة في حياة المخيم قبل هذا لسببين، أولهما أنها لم تعتن بنفسها ولم تدهن جسدها بماء القرنفل، ولم ترقص أمام أعين السكان خاصة الرجال مثلما فعلت اليوم، أما السبب الثاني فهو أن الرجال كانوا في خنادقهم يتعطرون برائحة البارود ولم تكن تروق لهم رائحة امرأة ."
نسى الناس الأحاديث عن مفاوضات السلام والحرب، وأصبحت الراقصة هي فاكهة أحاديثهم أثناء كل شاي.
 قال الترية، أخر مقاتلي الصحراء: إن امرأة هزت ركود المخيم ليست امرأة إنما ساحرة.
- قالت زوجة الشيخ عمار حارس مبنى الإدارة: إن المرأة الساحرة جاءت لتنسي الرجال رائحة الحرب.
رد عليها زوجها قائلا: حين ضربتُ الجرس جاءت المرأة الراقصة هي الأولى. من قبل لم أرها في المخيم.
 اعترف رجل لزوجته أن الراقصة أجمل منها بكثير فبكت، وسرت إشاعة تقول أن نساء المخيم لم يعد يغمض لهم جفن خوفا من أن ينصرف أزواجهن عنهن إلى المرأة الراقصة، وأنهن أصبحن يربطن أزواجهن بأوقات محددة يعودون فيها إلى الخيام قبل حلول الظلام.
- قال عبد الله، أحد ضحايا الحرب: المرأة الراقصة لم تكن تسكن في المخيم لكن كانت تسكن في صدور الرجال وظهرت الآن."
اكتشفنا أن كل شيء تغير في المخيم. أصبحت النساء يتجملن أكثر ويبالغن في زينتهن. تعلمن الرقص، وأصبحن يقلدن المرأة الراقصة في تسريحة شعرها ولون أصباغها وملابسها وعطورها حتى لا تسرق منهن أزواجهن. تغيَّر الرجال أيضا، أصبحوا يلبسون أجمل ويحلقون ذقونهن يوميا حتى يفوزون بنظرة من المرأة الراقصة. لا أحد استطاع أن يعرف ما الذي جعل المرأة تُقدم على هذا الفعل الذي وُصف بالغريب، في هذا الوقت بالذات. صارح مقاتل زوجته، بأنه لم ينس المرأة الراقصة خلال السنوات الماضية، لكنه كان مشغولا عنها، مثله مثل كل الرجال، بالحرب، وكان يفكر أن يستمتع بها بعد نهاية دخان أخر المعارك. قال لها علانية:- كانت الراقصة تعيش في أحلامي.
كل السكان شاركوا في الحديث عن المرأة التي رقصت مع لعجاج. أصبح الكلام عنها موضة. أتُهم الذين لم يشاركوا في الحديث عنها، أن لهم علاقة خفية بها، وأنهم يعرفون السر الذي جعلها ترقص أمام أعين الرجال في هذا الوقت. احدهم حين سمع الاتهام لم يتمالك نفسه، فقال للسكان انه ألتقاها ذات يوم، وقالت له أنها فعلت ذلك لتشمت بالرجال الذين وعدوها بالزواج قبل الاحتلال، وحين اندلعت الحرب نسوها واختاروا عن عطورها رائحة البارود والدخان. لم يقنع هذا التفسير أحدا. قال موسطاش، المقاتل تعقيبا على كل ما سمع:-" الذي نخافه أن ينسى الناس السبب الذي رماهم في هذا المنفى وينشغلون بحب المرأة الراقصة."



يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء