لوحة قوس قزح( قصة قصيرة)



يرسم عبدو، يرسم ويرسم على جدران مدرسته المبنية من الطوب، على جدران بيت أهله، على جدران الجيران.. في مدرسته ذات اللون الواحد – لون الغبار-، المنسية في الخلاء لا توجد ألوان. يرسم عبدو، يرسم ويرسم بدون تعب: يرسم على الرمل، على جدران ذاكرته، على الفضاء، على ورق مرمي يجده في طريقه أو يرسم في خياله. يجلس أمام خيمة أهله، شبه يوميا، يبدد الوقت في تلوين العالم الخيالي الذي يسكن في ذهنه. يقتل الوقت يرسم على الرمل أشياء وأفكارا لم تخطر على بال أحد من قبل.
يوميا أيضا يمر محمد، جريح الحرب، متوجها إلى محطة النقل راسما طريقه بين الكثبان.. بالنسبة لعبدو ، يعتبر محمد لوحة فنية حية، ناطقة، متحركة، لكن منسية.  أحد الأيام كان عبدو يرسم على الرمل المبلل بالماء. شاهده الجريح يرسم، فوقف ينظر إليه سارحا في عالمه الطفولي.  سأله وهو يمسك عكازيه: لماذا تقضي الكثير من الوقت في الرسم على الرمل.؟ قال له عبدو: أحب أن أرسم لوحة ذات ألوان، لكن المخيم لا ألوان فيه ما عدا لون التراب. أريد أن أرسم لوحة ملونة..
يقول له محمد الجريح: ارسم على الصخر.. أنا أيضا يوم جُرحت أغمست عودا في دمي، وكتبت به تاريخ واسم مكان المعركة التي جُرحت فيها فوق صخرة في أرض الوطن. إذا عدنا سنزورها أنا وأنت.!!
ويخفض الطفل رأسه ويقول: أنت إذن رسام. .
يقول الجريح: إذا عدنا، سنذهب أنا وأنت إلى الصخرة لترى اسم المعركة مكتوب عليها بالدم. الشمس والريح يمحوان كل شيء إلا دم الإنسان.   
تبادلا حديثا مطولا لأول مرة. في ذهن عبدو تلهو، تتكرر لقطات مرور الجريح مع مطلع كل فجر إلى محطة النقل. يسأله:  لماذا لا تذهب اليوم باكرا إلى المحطة مثلما تفعل كل يوم.؟
قال له الجريح: اليوم لن أذهب إلى الرابوني. اليوم، سأذهب إلى مستشفى الجرحى. أريد أن أغيِّر رجلي الصناعية هذه. إنها تؤلمني. عمرها الآن الكثير من السنوات.   
مضى محمد متأرجحا على عكازيه متجها إلى الكنترول.
في المساء عاد محمد الجريح راسما نفس الخط إلى المخيم.  التقاه عبدو، سأله، هل وجد ِرجْلا صناعية جديدة في المستشفى، لكنه نفى له ذلك بحركة من رأسه وسار نحو خيمته.
              **********
أحد الأيام على غير العادة نزل مطر خفيف في تلك الصحراء. كاد المخيم ينفجر من صراخ الأطفال. الكثير منهم يبلله المطر أول مرة في حياته. خرجوا ينظرون إلى الرمال التي كانت تبتل وتستحم أول مرة في تاريخها. فجأة انتهى المطر القليل الذي نزل.
بقى عبدو وبعض رفاقه ينظرون إلى السماء يترجونها مزيدا من المطر. يريدون أن يروا الرمل الجاف يعبُ من الماء. إنه عطشان، جاف، لم يشرب أبداً. لم ينزل مزيد من المطر، لكن المفاجأة أن ألوانا مبهرة سطعت في السماء. ظهر قوس قزح. أزداد صراخ الأطفال. أول مرة يرونه على ما يبدو أيضا. خرجت بعض النساء. ضحكت جدة عبدو العجوز التي تحكي عليه كل ليلة قصة، وقالت: "هذا هو خط الندية الذي حدثتك عنه يا عبدو".
قال عبدو في سره: " وهذه هي اللوحة التي أريد رسمها حتى أهديها للمقاتل الجريح الذي رسم بيده على صخرة في الوطن."
تبدد قوس قزح في دقائق، ظهرت الشمس، عاد الصهد يبسط سيطرته على تلك الصحراء.
 في المدرسة قالت لهم المعلمة أن ما شاهدوا بعد المطر أمس هو "قوس قزح" ذي الألوان الزاهية.   
    *******
بدأ عبدو يرسم، يرسم ويرسم: رسم لوحة قوس قزح في مخيلته، ورسمها في الهواء. في الأخير رسمها على رمل نائم. حين أتمها أحترق غضبا: لوحة قوس قزح لا بد لها من الألوان. على الرمل تبدو لوحة جامدة لا تتحرك، بلا دم ولا تُبهر. تمنى لو أسقطتْ عليه السماء مطرا من الألوان. بكل تأكيد توجد ألوان في السماء يرسم بها قوس قزح لوحته الخالدة عند نهاية كل مطر.." من فضلك أعطيني ألوانا وأقلاما يا قوس قزح الرسام."
حين كان يحلم وينظر إلى ما رسم، حرك عجاج قوي حبات الرمل فتطايرت.. تفجرت اللوحة، انمحت. غبار مثل الدخان الأصفر لوث وجه الطفل وعينيه.. لعن العاصفة وتلك الصحراء غير الملونة. تفل على الغبار والرمال ولعجاج. بقيت اللوحة منقوشة في خياله فقط. لوحة بلا ألوان وبلا وطن وبلا متحف.. لوحة لاجئة في متحف من العدم. في القسم كان يسرح قطعانا من الألوان السحرية.. يحلم بأمطار بآلاف الألوان.. المعلمة تتكلم، تشرح وهو يرسم في ذهنه. كان خارج إطار القسم تماما.  خياله الصغير يصعد مع تفاصيل تلك اللوحة حتى يغيب نهائيا في فضاء سحري ملون.. انتبهت المعلمة في يوم من الأيام إلى أن الطفل يرعى فضاءات أخرى بعيدة.. سألته ماذا به. قال لها: لا شيء.

إنه يريد أن يرسم اللوحة بأي ثمن، بأي ألوان، فوق أي فضاء. ستكون لوحة جميلة يفرح لها أهل المخيم جميعا، وسيفرح لها الرجل الجريح.. المهم بالنسبة إليه هو اللوحة. يتخيل، ربما للمرة الألف، محمد الجريح يرسم لوحة بدمه على صخرة في الوطن.
في المخيم يسأل الناس عن حكاية الرجل الجريح. قال له المقاتل أحمد الترية: " إنه رجل شجاع. كان الجن يخاف منه". ويقول له علي المري:" سبب جرحه انه كان يريد أن ينقذ رفيقا من تحت نيران العدو." ويقول له جريح آخر هو سعيد:" يوم سقط جريحا كتب اسم الوطن بدمه على صخرة.. باختصار هو بطل". 

في المدرسة تقول معلمة الرسم والألوان: لا توجد ألوان أو قماش رسم أو ورق. يتحدى عبدو ذلك العدم ويقول: في ذهني لوحة أريد رسمها وأخاف أن أنسى تفاصيلها. تكرر معلمة الرسم والألوان: الآن لا يوجد شيء، لكن قال لنا المدير أن جمعية "قوس قزح" ستدعمنا بالكثير من الألوان وورق الرسم.
يقول عبدو في سره: هناك جمعية تحمل اسم "قوس قزح" أيضا، ستأتي لنا بالألوان.؟ عجبا..أنا أريد أن ارسم لوحة قوس قزح، وجمعية اسمها "قوس قزح" ستجلب لنا الألوان.    
يفرح كثيرا، تنبت له أجنحة زرقاء. يمر الوقت ولا يمر.الساعة مثل اليوم واليوم مثل السنة. كل يوم يسأل المعلمة هل وصل شيء، فتقول له كل مرة: لا. إلى حد الآن لم يصل أي شيء.
مضى شهر ولم يصل شيء.. بدأ الطفل يحس أن أضواء مدينة أمله تنطفئ شيئا فشيئا، وأن الوقت يمحو اللوحة من ذهنه. النسيان يمحو لونا كل يوم من عالمه السحري. بدأ يتوهم انه نساها. حلم مرة أنه رسمها، لكن هبت الريح فلوثت ألوانها بالغبار. ينهض مرتعبا ويبقى مستيقظا حتى الصباح.  ذهنه مليء بالمخاوف: لا تأتي وسائل الرسم التي حدثته المعلمة عن قرب مجيئها أو ينسى بعض التفاصيل. لكن المخجل أن لا يفئ بوعده لذلك الرجل الجريح، الرسام الحقيقي الذي - حين لم يجد الألوان- رسم بدمه. 

كل مساء يصعد عبدو إلى المرتفع المطل على المخيم ينظر الطريق المؤدية إلى الرابوني. طريق القوافل القادمة من أسبانيا وإيطاليا محملة بالمواد الغذائية والكتب المدرسية. هذه المرة طال انتظاره للألوان والأقلام التي قالت له المعلمة أنها ستأتي.

يقول له الإحباط ساخرا: "جمعية قوس قزح نستكم. لن ترسل الأقلام والألوان التي سترسم بها اللوحة التي تحرقك."
مدرسة الطوب شبه فارغة، بلا ألوان، جافة. في يوم ما دخلت معلمة الرسم والألوان إلى القسم الذي يدرس فيه عبدو فرِحة. أخبرتهم أن شاحنة جمعية "قوس قزح" وصلت، وأنها ستنظم مسابقة عامة بين الأطفال في الرسم، وسيحصل فيها الفائز بالمرتبة الأولى على جائزة. مجيء الألوان كاد يجعل عبدو يصاب في عقله من شراسة الفرح. رأى حلمه على بُعد دقائق فقط من رؤية النور. بعد يوم أو اقل ستتحول اللوحة التي في ذهنه إلى شيء مجرد ترى العين احتفال وسيلان ألوانه.
قالت المعلمة: موضوع المسابقة هو أن يرسم كل واحد منهم لوحة فنية.
كانت شاحنة كبيرة تقف بجانب المدرسة مرسوم على جانبها قوس قزح كبير. نظر إليها عبدو طويلا، ثم أنصرف.
وزع عليهم أعضاء القافلة الأقلام والألوان وقماش الرسم والورق، وأعطوهم مهلة ثلاثة أيام. حمل عبدو أقلامه وقماشه وأوراقه وأسرع إلى خيمة أهله يخبر أمه بالمفاجأة. حين وضع أمامه أدوات ووسائل الرسم  أنتابه شعور أخر بالمرارة. خاف أن يرسم أحد أخر لوحة أحسن منه.
أنكب بوحشية على رسم لوحته التي خزَّنها في ذهنه. كان يرسم كمن ينتقم من شيء مجهول دون شعور بسيوف بالجوع وبالعطش. كانت أمه تضع الطعام والشراب إلى جانبه فيتركه يبرد ثم يعيده إلى مكانه. حتى حين كان ينام الجميع، كان هو يبقى ساهرا مع القنديل يرسم لوحته بانتقام. حين أكملها أحس أنه أفرغ ذهنه من ما ترسب فيه من أشياء.
يوم التحكيم عرض الأطفال لوحاتهم أمام اللجنة. كانت متباينة. كانت كلها تسيل ببراءة ملونة. رسموا شاحنات، سيارات، دبابات، مقاتلين أثناء الاستعراض. هناك من رسم رجالا يركبون جمالا في استعراض فكلوري. البعض رسم أشجارا متوحشة أسطورية.. البعض رسم الكثير من الحلوى معلقة على أشجار طلح عجفاء..
جاء الدور على لوحة عبدو.  كانت اللوحة صورة لقوس قزح في صحراء تهب عليها ريح حمراء وقت العصر.   فازت لوحته بالجائزة الأولى.. أجتاحه فرح مجنون أفقده سيطرته على وعيه. قالوا له:" الجائزة هي الذهاب في جولة مع جمعية قوس قزح لمدة شهرين".
 حين سمع عبدو بالجائزة تذكَّر المقاتل الجريح الذي أوحى إليه بالفكرة واللوحة.. قرر أن يمنح تلك الجائزة للجريح حتى يجد رجلا صناعية في الخارج، وأن ينتظر هو الصيف ليذهب مع الأطفال لقضاء العطلة في أوروبا.

بعد إعلان النتائج والجائزة طلبوا من عبدو أن يحضر صورا فوتوغرافية ومعلوماته الشخصية، وأن يحزم حقيبة أمانيه وأشيائه الصغيرة ويستعد.. قال لهم نعم، ثم أخترق كل الحواجز مسرعا، تدفعه قوة خفية مثل سهم سحري إلى المخيم. دخل إلى خيمة الجريح محمد، وطلب من ابنته أن تعطيه صورة لوالدها وتسجل له معلوماته. قال لها انه يريد أن يضعها في معرض المدرسة. أعطته الصورة والمعلومات. ذهب بها إلى المدينة المجاورة، ونسخ منها الكثير من الصور. حين جاء الرجال المكلفين بملفه يطلبون صوره، أعطاهم ملف الجريح وصوره ومعلوماته. قال لهم إن هذا الرجل هو الذي أوحى له باللوحة، وهو الذي يستحق الجائزة. وأخذوا معلومات الرجل وصوره وذهبوا يعدون له إجراءت السفر. 
                                                                                   
 


يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء