المراة كضحية وبطلة للصراع







Resultado de imagen de mujer saharaui guerra
إن رفض الحكومة الأسبانية سنة 1970م منْح الاستقلال للصحراويين أنتج وضعا من الإحباط في النفسية الصحراوية المتعطشة للحرية منذ قرون.. وحتى يُظهر الصحراويون مدى رفضهم للوجود الأسباني أسسوا حركة جبهة البوليساريو وبدؤوا القتال. وجهت الحركة التحررية الجديدة نداءا وطنيا إلى كل الرجال البالغين وكل الشبان تطلب منهم أن يلتحقوا بالجبال لقتال الأسبان. في الثقافة الصحراوية يُعتبر التخلف عن الرجال الذاهبين إلى الجهاد أو الملبيين لواجب ما فضيحة لا تغتفر. إن الرجل الذي يتخلف عن عمل رجولي، خاصة الحرب، يفقد رجولته ويصبح في أعين المجتمع في خانة النساء. ففي اللغة الشعبية الصحراوية يُقال:" الموت أخير من الفضيحة"، لذلك يفضل الرجل الصحراوي أن يموت من أن يُنعت بالتخلف عن الموت أو ينعت بالجبن. أيام قلائل بعد نداء الجبهة، كان الرجال كلهم أو غالبيتهم قد تركوا عائلاتهم وممتلكاتهم كلها ليقاتلوا، ولم يتخلف سواء الذين لم يستطيعوا- لظروف أو أخرى- الالتحاق بميدان القتال.
ابتداء من هذا التاريخ بدأت معاناة النساء الصحراويات التي ستستمر عشرات السنوات بعد ذلك. بعد ذهاب الرجال بقيت النساء وحدهن في البيوت، وكان عليهن أن يملأن الفراغ الكبير الذي تركه الرجال الذاهبون إلى الحرب ويتحملن مسئولية العائلة كلل. ولم يكن هذا كل شيء؛ فبالإضافة إلى المعاناة الجسدية بسبب العمل اليومي الذي كان يتراكم يوما بعد يوم، عانت النساء أيضا من الفراغ العاطفي الذي تركه غياب الآباء والأبناء والأزواج.

مع مطلع سنة 1975م كان كل الرجال الصحراويين تقريبا في جبهات القتال. في نفس الوقت أعلنت أسبانيا أنها ستنسحب من الإقليم الصحراوي. إن إعلان أسبانيا نيتها في الانسحاب زرع فرحا عارما في نفوس الصحراويين ككل وفي قلوب النساء خاصة، لإن الصحراء ستصبح حرة وسيعود الرجال إلى أطفالهم ومنازلهم من جديد وستبدأ حياة حرة كريمة. في الحقيقة كل امرأة في الصحراء ظنت أنه بخروج أسبانيا فإن الحياة ستعود مرة أخرى إلى عهدها السابق وإلى عادتها أو حتما ستكون أحسن مما كانت عليه. بدأت النساء الصحراويات الاستعداد لإقامة حفلات فرح خاصة: أخذن يضفرن شعور بناتهن ويصبغن أيديهن بالحناء ويحضرن لهن ملاحف نيلية جديدة. كان الحدث، لو تم حدوثه مثلما تصورته الصحراويات، أشبه بحفل زفاف جماعي في كل الصحراء. وحسب بعض ما تم تداوله آنذاك فإن الكثير من الصحراويات أجلن حفلات زفافهن أو أجلن زفاف بناتهن إلى يوم الاستقلال حتى تقام الأفراح كلها في وقت واحد. لكن وللأسف، لم يتم الاحتفال بيوم الاستقلال في تاريخه المحدد وماتت فرحة شعب كامل، خاصة النساء، قبل أن تولد؛ فالذين كانوا يستقون الأخبار في إذاعة لندنbbc العربية، سمعوا خبرا أخرا منافيا تماما ِلما كان منتظرا ولِما كانت النساء الصحراويات يحلمن به. قالت الأخبار نقلا عن لندن أن المغرب وموريتانيا وأسبانيا انتهوا من توقيع أتفاق يقضي بتقسيم الصحراء الغربية بينهم؛ بمعنى أن عيد الاستقلال لن يُخلد وان مأساة أخرى صعبة ستبدأ. وبالإضافة إلى هذا النبأ الحزين كان هناك نبأ آخر أكثر حزنا منه: الجيش المغربي والموريتاني يبدأن عملية عسكرية مباغتة لمحاصرة الصحراويين وخنقهم قبل إن يستطيعوا الخروج. وكنتيجة لهذه الصدمة لم ينزل الرجال الصحراويون من الجبال، وبقوا في خنادقهم مع أسلحتهم لخوض معركة أخرى قادمة أكثر شراسة من المعركة التي خاضوها ضد أسبانيا. في المدن والمداشر الصحراوية أطفأت النساء شموع فرحهن وأخفين الحناء وملاحف النيلة وأجلن الاحتفال إلى تاريخ غير محدد. تجمدت الفرحة في قلوبهن وتحولت أحلامهن إلى كوابيس مرعبة. كان مشهد الحياة في الصحراء آنذاك كما يلي: بقى الرجال في الجبال لقتال الغزاة الجدد الذين كانت جيوشهم تقترب من الحدود بينما بدأت النساء، تحت وقع الخوف، هجرة نحو المجهول. في أيام معدودة أصبح الاحتلال حقيقة مُرة واقعة على الأرض، وحسب الأخبار التي كانت تصل من القرى التي تم احتلالها، فإن الجيش المغربي والموريتاني، وحتى يزرعون الرعب في نفوس الناس، كانوا يقتلون، بدم بارد، كل من يحاول مقاومتهم والرد عليهم بالقوة. فالذين أبدوا مقاومة تعرضوا لتنكيل وحشي وغير إنساني، أما الذين قالوا لا للاحتلال ووقعوا في الأسر فإن مصيرهم كان الرمي من الطائرات العمودية أحياء في البحر أو في الصحراء ليموتوا، أما الذين سيعتبرون، سنوات بعد ذلك مفقودين، فإن الحقيقة أنه تم دفنهم أحياء تحت الرمال الصحراوية في اجديرية وحوزة وتحت كثبان المكان المسمى الزبارة.
كانت هجرة المدنين العُزل، وفي مقدمتهم النساء والأطفال، إلى المجهول هي الحل المثالي، لكن في نفس الوقت لم تكن سهلة ومريحة. ومما صعَّب مهمة الفارين أن الغزو جاء مفاجئا فلم يجدوا الوقت الكافي ليحضروا أنفسهم معنويا وماديا لهجرة مثل هذه، وثانيا كانت غالبية الفارين هي نساء وأطفال وعجزة. الشيء الآخر الذي عقَّد وصعَّب الهجرة كانت الجغرافيا الصحراوية الصعبة. إن سطح الصحراء هو سطح قاسي، صخري ملئ بالصخور الصغيرة التي لا تساعد الراجلين على التنقل بسهولة. والأصعب من هذا كله هو ندرة الماء في الصحراء؛ فالمسافة بين بئر وأخرى تُعدْ، في بعض الأحيان، بمئات الكيلومترات، والفارون لا يعرفون المسالك التي تؤدي إلى نقاط الماء. ففي الصحراء لا يصل إلى الآبار إلا العارفين بالطرق والوديان والشعاب، أما من لا يعرف الطريق فإن مصيره في الكثير من الأحيان هو التيه.

في الأخير حدد الفارون- نساء وأطفال- وجهتهم واستطاعوا، بعد جهد معتبر، معرفة إلى أين يتجهون. توجهوا نحو شروق الشمس، نحو الشرق، وبالضبط نحو الحدود الصحراوية الجزائرية. من هناك كان يلمع شعاع وحيد للأمل وللنجاة والأمن؛ كل الحدود الأخرى، من الشمال والجنوب، كانت مسيجة بالجيوش والموت والخوف. إن توجيه البوصلة – معرفة أين يجب أن يتجه الفارون- لم تكن تعني الوصول. كانت المسافة التي تفصل الصحراء والحدود الجزائرية بعيدة، بعيدة جدا. كيف سيستطيع شعب أعزل، غير مسلح، يتكون من النساء والأطفال أن يقطع المئات من الكيلومترات في صحراء صخرية، جافة وبدون ماء على الأرجل أو على الدواب ويصل إلى الحدود الجزائرية قبل إن تصل إليه الجيوش الغازية التي كانت تطارده.؟
فالنساء اللاتي لم يجدن سيارة لاندروفير أو جملا يتنقلن عليه رفقة أطفالهن، اضطررن للتنقل على الأرجل وكنَّ، كلما مر الوقت، يصبحن في مرمى قوات الاحتلال. إن اقتراب الجنود المغاربة والموريتانيين جعل الفارين الصحراويين، لا يلوون على شيء، ويتفرقون، وحدا واحدا أو اثنين اثنين، في الصحراء الشاسعة بحثا عن مكان آمن. فمن جهة كان التفرق النسبة لهؤلاء الفارين في الصحراء والتيه، رغم صعوبته، أحسن من الموت أو الوقوع في الأسر، ومن جهة أخرى كان هو الحل الوحيد حتى لا يتم كشفهم من طرف الطائرات إذا تجمعوا.
هكذا تمت الهجرة الصحراوية أو، بتعبير آخر، تمت هجرة النساء الصحراويات وأطفالهن. يسمى هذا الحدث في الذاكرة الشعبية الصحراوية "الانطلاقة" ويعني الهجرة الطويلة والصعبة للمدنين الصحراويين إلى منطقة الحمادة على الحدود الجزائرية الصحراوية البعيدة. كان الحدث تراجيديا ولا يصدق: شعب من النساء والأطفال متفرقون في صحراء شاسعة، تطاردهم الدبابات والطائرات، عليهم أن يصلوا إلى مكان قصي في ظرف قصير. لا احد كان يستطيع تصور المأساة: نساء وأطفال تائهون بلا زاد ولا ماء، يسيرون ليل نهار في صحراء مجهولة، تطاردهم جيوش نظامية مجهزة بكل الأسلحة. كانوا أيضا مضطرين أن يبتوا الليل في العراء تحت الشجر في برد الصحراء القارس بلا أغطية، ويقضون النهار، ماشيين على الأقدام، تحت شمس حارقة خانقة. إن الشمس في الصحراء تفرض على كل الكائنات الحية، ابتداء من العاشرة صباحا، إن تختفي عن الحر، لكن أولئك الذين كانوا يسابقون الزمن هاربين من الموت، كان عليهم إن يواصلوا مسيرهم تحت تلك الشمس القاتلة وإلا فإن الموت سيدركهم وسيكون مصيرهم المحتوم.
بعد أيام عديدة من المسير استطاعت الأفواج الأولى من النساء الفارات رفقة أولادهن من الوصول إلى بعض المراكز والقرى الصغيرة التي كانت آنذاك تسيطر عليها البوليساريو. لكن إذا كانت بعض النساء محظوظات ووجدن في طريقهن بالصدفة قرية أو مركزا صحراويا ليحتمين به فإن الكثير منهن تاه في الصحراء الشاسعة، والكثير منهن أيضا، بسبب عدم معرفة الأرض أو بسبب عدم القدرة على السفر، أو بسبب الخوف من المخاطرة بحياة أولاهن الصغار، لم يستطيع أصلا الخروج من المدن التي وقعت تحت الاحتلال في الأيام الأولى.
كانت حكايات النساء اللاتي فررن من أمام الموت حزينة جدا؛ أكثر حزنا مما يمكن أن يتصوره أي أحد. مات الكثير من النساء المريضات والحوامل في الطريق؛ أخريات أنجبن أولادهن تحت الأشجار أو تحت الصخور، أما اللاتي لم يسعفهن الحظ للوصول إلى أي مكان آمن فقد تُهن في الصحراء، وبكل تأكيد لا بد أن العطش قد فتك ببعضهن. كانت رحلة مرعبة حقا وشاقة، وتركت وراءها الكثير من الضحايا والذكريات الأليمة والقصص الحقيقية التي لا تصدق. انتفخت أرجل النساء والأطفال، أصبحت سيقانهم ذات لون أزرق داكن بسبب تجمد الدم في عروقهن. وليست الصحراء وحدها أو صعوبة السفر فيها كانت هي سبب كل الألم. فأولئك النسوة اللاتي خرجن متأخرات من المدن وجدن العسكر ينتظرهن. فحتى لا يخرج أحد من المدن عمدت الجيوش الغازية إلى إقامة جدار من الدبابات والقوات العسكرية في الطريق لصد الفارين عن الوجهة التي يقصدون. ففي خلال أسبوعين أو ثلاثة تمكن الغزاة من قفل نافذة الهروب الوحيدة المؤدية إلى الحدود الجزائرية. الكثير من المدنيين والنساء وجدوا أنفسهم محاصرين في الصحراء وأجبروا، تحت التهديد والعنف، على العودة إلى المدن المحتلة ونسيان الهجرة. كانت أوامر القوات الغازية صارمة ولا تتم مناقشتها:" يجب أن لا يخرج أحد إلى ما وراء الحدود،" خاصة النساء والأطفال. إن منع هؤلاء من الهجرة كان هدفه هو إجبار الرجال- مقاتلو البوليساريو- إن يسلموا أسلحتهم ويعودوا، مكرهين، إلى عائلاتهم. وموازاة مع هذا الابتزاز غير الإنساني، كان الجيش المغربي يلقي منشورات من الطائرات في الصحاري ينذر فيها مقاتلي البوليساريو أن يتخلون عن السلاح ويعودون وإلا فإن عائلاتهم ستتم معاقبتها. كان تهديدا مؤلما وقاسيا وقلة في العالم هم من كانوا سيرفضونه. كان رد مقاتلي البوليساريو، أخر الرجال الأحرار في العالم، هو الرفض ومواصلة الكفاح. إن رفض الرجال الصحراويين لترك السلاح جعل الجيش المغربي يلجأ إلى العنف، القتل، التخويف، الاغتصاب، وإلى حد الآن لازال الكثير من ضحايا تلك الفترة مجهولي المصير، لكن أغلب الظن أنهم ماتوا جميعا.

يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء