ملحمة لكويرة: ملحمة الاستبسال إلى آخر طلقة(الجزء الثاني والأخير)

 




خلال تلك العملية في لكويرة، توجهت موريتانيا الى فرنسا تطلب الدعم والنجدة. يقول تقرير السفارة الأمريكية في نواقشوط :" كان رئيس الاستيراد العسكري الموريتاني (مواطن فرنسي) في فرنسا خلال الأسبوعين الماضيين لتنظيم شحنات الأسلحة إلى موريتانيا. تم الإبلاغ عن أن بعض هذه الأسلحة قد وصلت بالفعل إلى نواذيبو، وأن الأسلحة الإضافية في الطريق( تقرير السفارة الأمريكية في نواقشوط بتاريخ 17ديسمبر 1975م تحت الرقم 1975nouakc02597_b)


بعد عجز القوات البرية دخول لكويرة، بدأت الباخرة " اديني" تقصف المدينة من البحر بواسطة الهاونات. المفارقة أن الباخرة التي كانت تقصف لكويرة- اديني- هي واحدة من ثلاث بواخر سلمتها الجزائر، سابقا، كمساعدة لموريتانيا. 

الانسحاب

حين انتهت أخر طلقة بحوزة تلك المجموعة من المقاتلين الاشداء الذين اقسموا ألا يتم احتلال الكويرة إلا بعد أن تنتهي أخر طلقة لديهم، قرروا الانسحاب. بدأ الانسحاب مساء اليوم الذي وقع فيه احتلال المدينة. من قواعد الحرب المهمة في تلك الفترة، بسبب النقص البشري، هي ألا يستسلم أي مقاتل للعدو، وحين تنتهي ذخيرته ينسحب ليقاتل في مكان آخر. مثلما كانت تلك المعركة مغامرة من الصعب تخيل فصولها، سيكون من الصعب أيضا تصور كيف انسحب أولئك المقاتلون.. كلما انتهت ذخيرة مجموعة تبدأ الانسحاب الذي يشبه سيناريو خيالي. طريق الانسحاب هي طريق واحدة مكشوفة، إجبارية ولا يستطيع أي أحد المراوغة فيها ليخدع القوة الموريتانية التي ترابط فيها. فحتى ينسحب أي مقاتل بلا ذخيرة- الذخيرة انتهت في المعركة- عليه أن  يشق صفوف الجيش الموريتاني  بطريقة تختلط فيها البطولة والمغامرة والحظ والمعجزة.. البعض خرج في الليل، والبعض استغل يوما غائما فخرج، والبعض اقتحم القوة الموريتانية منتصف النهار ونجا. يتذكر أولئك المقاتلون القلائل الذين خرجوا في تلك المغامرة الخطيرة،  أن النساء في مدينة لكويرة طلبن منهن الانسحاب بعد نهاية ذخيرتهم، وقلن لهم انهن هن سيتحملن الأسر والسجن بعزيمة. 


 رواية النخ ولد محمد ولد بدة، مشارك في العملية 

ملحمة لكويرة التاريخية، التي دامت عشرة أيام متواصلة، والتي تعتبر أطول معركة في الحرب ضد موريتانيا، تحتاج إلى شهادة مشارك فيها ليضعنا في الصورة أكثر. هذا المقاتل الذي سيحكي لنا مشاركته في هذه العملية-النخ محمد بدة-، لا يمكن أن نبدأ معه شهادته منذ إطلاق أول طلقة في المعركة إلى آخر طلقة أو إلى نفاذ ذخيرة أولئك الرجال، لكن سنعرف منه كيف وصل إلى لكويرة، وكيف شارك في العملية التي ستكون أهم محطة في مشواره، وستعتبر نقطة تحول في مسار حياته. يقول النخ:" كنت في قلتة زمور، وكان عمري خمسة عشر سنة، لكن ضممت نفسي، بإرادة مني ووعي، إلى المقاتلين، وكنت منبهرا بالسلاح والرصاص، وأحلم بالمشاركة في الحرب التي كانت تمثل لي افلاما سينمائية. بما أنني كنت طفلا فقط، فقد سمعتهم يقولون ان الشهيد الولي أمر أن يلتحق كل الشبان بمدينة المحبس ليذهبوا الى للدراسة في دول صديقة." 

هذا الخبر آثار الرعب في نفس الطفل النخ، لان ذهابه الى الدراسة سيفصله عن المقاتلين، وعن الحرب التي تستولى على ذهنه. وحتى يتخلص من ذلك المأزق، قرر أن يركب أول سيارة متجهة الى الجنوب وليس أول سيارة متجهة إلى الشرق. إذا ركب سيارة متجهة إلى الشرق يمكن أن يصبح قريبا من المحبس، ويفرضون عليه دخول المدرسة فيبتعد عن عالم القتال الذي يعيش معه. يقول :" فعلا، وجدت سيارة متجهة إلى أقصى الجنوب ضمن نجدة من قطاع الجنوب الذي يقوده الداه محمد نافع( الداه الجنوب)متجهة إلى لكويرة. كان يقود تلك السيارة يحظيه ولد عبدي، أول جريح في حرب التحرير، الذي جُرح في عملية قلب لحمار يوم 26 جانفي 1974م. حين عرفت أنه ذاهب الى الجنوب، في اتجاه معاكس لاتجاه المدرسة، ركبت معه رغم انني لا اعرف الى أي مكان في الجنوب هو ذاهب بالضبط . مررنا باوسرد، بعد ذلك لا اتذكر بقية الرحلة التي كانت نهايتها في لكويرة، اقصى نقطة في الجنوب." في لكويرة وجد النخ عالما آخرا لم يكن يعتقد أنه يوجد في تلك المدينة النائية. كانت الحياة تسير عادية منذ انسحاب إسبانيا منها، وكانت هناك مدرسة ومتاجر ومستشفى، لكن في نفس الوقت، كان المقاتلون القلائل- حوالي 120 مقاتل- يتحضرون لخوض معركة كبيرة بمعنويات عالية وحماس لا مثيل له. كانوا كوكبة من الابطال، كأنما تم اختيارهم بدقة لخوض تلك الملحمة وحدها، وبعدها سيستشهدون أو يقعون في الأسر. كان قادة تلك المجموعات التي تحصنت في لكويرة وحولها للدفاع عنها هم أبطال معروفون، استشهدت اغلبيتهم فيما بعد في معارك أخرى ومن لم يستشهد ابلى البلاء الحسن. كان يقود تلك المجموعة الشهيد بوزيد ولد احمين، يساعده البندير، علي احمد زين، باهية ولد ابّ، حمادي البايفو، المامي سدوم، محمد ولد العيطة وكوكبة أخرى كثيرة، منهم من يحمل السلاح لأول مرة، ومنهم- حسب رواية محدثنا- من يرمي بالرصاص أول مرة، وحين تسأله كيف تعلم الرماية يقول لك: "كنت انظر إلى رفيقي في الخندق الذي بجانبي فأفعل ما يفعل واطلق الرصاص".  لكن كان أولئك الرجال مستعدون لمواجهة العدو بصدورهم العارية  وبمعنوياتهم وبعظمتهم. يواصل النخ الحديث عن تلك الملحمة: " يوم 10 ديسمبر، حين تحركت القوة الموريتانية لتحتل المدينة، توزع المقاتلون على خنادقهم خارج المدينة وتحصنوا هناك. رفضوا أن يسلموني سلاحا لصغر سني، وكانت الصورة الأكثر حضورا في ذاكرتي هي صورة رامي صواريخ ر ب ج 7، عبد الله لعروسي(الليوة) الذي كان يتوعد الدبابات الموريتانية إن هي شاركت في العملية. كانوا يرفضون تسليمي سلاحا، وكانوا يقولون لي ان سلاح 36 أطول مني. رغم ذلك كنت احصل على سلاح مات 49، وكنت انتظر مع المقاتلين الدخول المعركة. أتذكر أنه في اليوم الثاني من الهجوم، سيصاب أول جريح في صفوفنا هو عبد العزيز ولد الديه."

أولئك الرجال الذين كانوا يدافعون عن المدينة، سيلتزمون، وهم في خنادقهم بالأوامر الصارمة: الذخيرة قليلة والمقاتلون قليلون، ويجب ألا تُطلق طلقة إلا اذا كانت قاتلة، ولا يُعرّض أي مقاتل نفسه لنيران العدو وإذا انتهت ذخيرته ينسحب حتى يشارك في عمليات أخرى. هذه الأوامر الصارمة موروثة من عهد الغزوات ضد فرنسا، حين كان المجاهدون قليلون وذخيرتهم قليلة، وكان أي منهم يطلق طلقة غير قاتلة يعاتبونه. على مدى عشرة أيام والقوات الموريتانية تتقدم فيلهبها الرصاص والقذائف فتتراجع. لم يعلم أولئك الرجال الذين كانوا يقضون الليالي في خنادقهم أن صمودهم واستماتتهم ستفرض على الجيش الموريتاني أن يستنجد بالمدفعية المغربية ويطلب الدعم من فرنسا.  يواصل النخ حديثه: "بدأت الطائرات الموريتانية تحلق فوقنا، تحاول أن تكتشف مواقعنا، ولا أنسى أن امرأة بطلة من سكان مدينة لكويرة قالت إنها ستتطوع وتصعد على سطح أحد المنازل وتطلق النار على الطائرة الموريتانية من سلاح 36. كانت القوة الموريتانية أو الفرقة رقم واحد تتقدم وتنكسر، وفي بعض الأحيان يتقدمون في الليل، لكن ينكسرون امام نيراننا. بدأ القصف يأتينا من البحر بواسطة هاونات ومدفعية ثقيلة، وكان القارب الذي يقصفوننا منه من البحر يحمل اسم " اديني" وهو أصلا مساعدة جزائرية لموريتانيا." 

ورغم أن  المقاتلين يرفضون أن يشارك النخ-الطفل في نظرهم-  معهم في القتال الشرس، إلا أنه هو كان يستولي على سلاح مات 49، ويحاول أن يرى العدو من بين الأزقة، وكان يطلق النار إذا سمحت الفرصة كرمز لمشاركة في حرب كان يحلم بخوضها مثل أولئك الأسود الذين كانوا يذودون عن لكويرة في تلك الأيام التاريخية التي لا تُنسى. يقول:" بعد أسبوع،  بدأت المدفعية تدك المدينة فعرفنا أنها مدفعية مغربية، وأنه دعم مغربي مستعجل  لأن الموريتانيين لم تكن لديهم اسلحة ثقيلة بذلك الحجم." في اليوم الأخير، بدأت الذخيرة القليلة تنفذ، وبدأ الرجال الذين انتهت ذخيرتهم ينسحبون. الحصار مضروب على المدينة برا وجوا وبحرا، خاصة بعد غلق الطريق الوحيد المؤدي الى نواذيبو- طريق الانسحاب-. لم يكن النخ يفهم الكثير من الأشياء التي تدور حوله، خاصة ما يتعلق بنفاذ الذخيرة، والحصار والانسحاب. كان مُركزا ذهنه على القتال فقط، والبحث عن فرصة يقاتل فيها قتالا حقيقيا مثل الرجال الذين كانوا مرابطين حول المدينة، والذين يعرفونه ويعطفون عليه ويمنعونه من المشاركة في القتال. كان العدو يقترب، وكانت القذائف الكبيرة تسقط على الأحياء السكنية. يقول النخ:" سقطت قذيفة على منزل وحطمته واستشهد من كان فيه. وسقطت قذيفة أخرى قادمة من  من القارب في البحر واستشهد مسعود، مذخر ى ب ج 7 . استشهد ايضا المقاتل الذي اتذكره دائما وهو خطري ولد المين ولد سيدي العربي. وقبل الانسحاب النهائي التقيت مع حمادي البايفو- للتذكير حمادي بطل مغوار وسيكون في أول سيارة تهجم على نواقشوط وتدخله يوم 8 جوان 1976م-، رامي هاون 81، وطلب مني أن ارافقه وننسحب معا، لكنني رفضت. فجأة حدث ما لم اتوقعه. جُرح رامي رب ج 7، عبد الله ولد لعروسي( الليوة)، الذي كان ينتظر الدبابات كي يدمرها بصواريخه. ساعدته في الذهاب الى المستشفى. هناك، داخل المستشفى، تحصنت مع الجرحى، وكنت أرى جنود الاحتلال من النافذة وأحاول أن اطلق عليهم النار، لكن المقاتل محمد العيطة قال لي أن المستشفى لا تُطلق منع النار. في المستشفى كان هناك بعض الجرحى منهم باهية ولد اب، الذي كان في خندق المعركة الأول. كان ذلك آخر يوم من المقاومة؛ انتهت ذخيرة جميع أولئك الرجال وانسحبوا، وحين لم يعد الرصاص يُسمع بكثافة تقدمت القوة الموريتانية ودخلت المدينة. القوا القبض علينا في المستشفى. من بين الذين أُلقي عليهم القبض كان هناك ستة مقاتلين منهم ثلاثة جرحى والبقية كانوا مدنيين. القى عليّ القبض قائد القوة احمدو ونائبه "صار". " صار" هذا يعرفني في بئر ام كرين، وحين رآني وعرفني يوم الأسر، طلب من جنوده أن يلحقوا بي أقصى درجات العقاب."

الطفل الذي هرب نحو الجنوب حتى لا تفصله الدراسة عن المقاتلين،  شارك في ملحمة لكويرة التاريخية، وسيجد نفسه في الأسر وفي السجن بدل أن يجد نفسه في مكانه الحقيقي: المدرسة. بعد أكثر من ثلاث سنوات في السجن سيخرج النخ، وسيتوجه الى القتال ويصاب بجروح في عمليتي المحبس والوركزيز، وفي سنة 1985م سيستشهد والده، محمد ولد بدة، تحت التعذيب في سجن قلعة مكونة السيء السمعة. ومثلما كانت رحلة النخ نوع من المغامرة، كان ما حدث في لكويرة مغامرة حقيقية أكبر وملحمة. حين استولى الجيش الموريتاني الحاقد على تلك المدينة عاث فيها فسادا. اعتقل المدنيين في ساحات عامة، وحدثت عمليات نهب عظيمة لكل شيء في تلك المدينة الجميلة. خلال اسبوع من النهب تحولت لكويرة إلى اطلال واعادوها إلى مدينة من مدن القرون الوسطى(انتهى).

المقال القادم إن شاء الله معركة اكجيجيمات 1974م


blog-sahara.blogspot.com.es

السيد حمدي يحظيه  




يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء