شهادات الذين رأوا الشمس..
أحاديث تفوح منها الماسأة
" إن الشروط جد صعبة في
السجون. لقد كان يتعين معاقبة عائلات قيادات جبهة البوليساريو. كان المعتقلون
كثيرون من بينهم رجال ونساء وبينهم شيوخ تجاوز بعضهم الثمانين، وكذالك كان هناك
أطفال مثل محمد الشيخ الذي توفي في عمر الرابعة عشرة تحت التعذيب، وكذا منى التي
لا يتجاوز سنها الثانية عشر والتي لا أعرف مصيرها."
شهادة
أحد حراس سجن مكونة
" أُطْلِقَ سراحهم ليموتوا
في الشارع. بعد أن تأكد السجانون أن المساجين والمعتقلين سيموتون بسبب الأمراض
والانهيار الجسدي والنفسي، أطلقوا سراحهم ليموتوا بعيدا عن السجن حتى لا يقال انهم
ماتوا فيه."
كلمة
قالها صحراوي شارك في جنازة مولاي احمد الليلي الذي قضى خمسة عشر سنة في السجن
وتوفي في اليوم الموالي لإطلاق سراحه يوم 22يونيو 1991م.
حين أحتل المغرب الصحراء الغربية
وفكر في تصفية من تبقى من شعبها في المدن المحتلة تم استحضار كل أصناف التعذيب
التي مورست على البشر والحيوان على مدى تاريخ البشرية. فقبل الاحتلال بعدة شهور تم
تدريب فِرق في مراكش والقنيظرة على التعذيب، وكان عد د الذين تلقوا تدريبات يفوق 7
آلاف رجل. الذين تم تدريبهم على التعذيب كانوا من ذوي السوابق العدلية الذين أطلق
سراحهم من السجون أو تم جمعهم من الشوارع، وتمت تهيئتهم بدنيا وعقليا على التعذيب
لعدة شهور. لم يكونوا يعرفون إلى اين سيذهبون ولماذا يتم تدريبهم على التعذيب
والتعامل الفظ مع السجناء. حين تم احتلال الصحراء الغربية تم استدعاؤهم إلى
القنيظرة والعيون وتازمامارت وبوزكارن وكل السجون التي يتواجد بها صحراويون.
الصحراويون الذين خرجوا من السجن
وبقوا أحياء، بدؤوا يحسون بوقع الحياة حولهم ببطء بعد أن تأكد لهم فعلا أنهم أحياء
يتنفسون. بدؤوا يشعرون بالناس حولهم، وبالواقع، وعاد إليهم الإحساس بتمييز
الألوان، بتلمس الأشياء وبرؤيتها في الضوء بعد أن فقدوها في السجن. كان الضوء
والشمس هما أهم شيئين كان السجناء والمعتقلون يحلمون به. لم يكن أي منهم في
البداية يصدق انه نجا من الموت بعد كل الذي وقع له وعليه، ومنهم من بدأ يشك فعلا-
مع نفسه- في أنه عاش في ظلمة مقونة واكدز كل هذه السنوات. لا أحد منهم يصدق، لكن
العلامات الغائرة في نفوسهم وعلى أجسادهم تتكلم بدلا منهم، وترغمهم على تصديق
الحقيقة. خرجوا إلى الشوارع ورأوا الضوء، شموا الهواء وبدؤوا يجيبون بوعي حاد على
الأسئلة التي كانت تطرح عليهم من طرف أولادهم وذويهم، وحتى من طرف بعض الصحف التي
كانت تسرق لقاءات سرية معهم. كانوا، كلهم، منكوبين، محطمين، بعضهم مصاب بفقدان
الذاكرة، البعض يحمل في صدره أمراضا مزمنة، البعض مشلول أو فاقد الحركة، وبخلاصة
لم يخرج منهم أي شخص في حالة سليمة عقليا وجسديا.
أما الذين خرجوا وفيهم بقية حياة،
والذين احتفظوا بعقولهم سليمة وبذاكراتهم متقدة، بعد رحلة السجن والعذاب، فقد
قرروا مواصلة النضال والتحدث بأسم كل الصحراويين؛ فهم يرون انه لم يعد لديهم ما
يخسرون بعد أن خسروا شبابهم، حياتهم،
وفقدوا حتى أي أمل ما عدا الأمل في القضية الوطنية ومستقبل الشعب الصحراوي.
هؤلاء أصبحت الحياة بالنسبة لهم في الزنزانة أو في الشارع سيان، والكثير منهم فضل
لو كان مات شهيدا تحت التعذيب ليدخل التاريخ كوطني قضى حياته في السجن حتى
الشهادة. بعد الخروج من السجن أصبح هؤلاء أكثر جسارة من ذي قبل. تخلصوا من الخوف،
أصبحوا يفكرون ويتحدثون بصوت مرتفع مسموع في وجه سلطات الاحتلال يطالبونها بالرحيل
بعدما خسرت معركة كسب قلوب وسيوف الصحراويين وودهم. بدؤوا، رغم ظروفهم الصعبة،
وحالاتهم الصحية المتدهورة، رحلة جديدة من الكفاح السلمي تحت شعار "لا بديل
عن تقرير المصير" يؤازرهم في ذلك شارع صحراوي متماسك ومتحد ضد الاحتلال.
إن الصحراويين الذين رأوا الشمس
بعد أكثر من خمسة عشر سنة في ظلمة الزنزانة أو ما يسمونه هم قبور الأحياء، يحكون
عن التجربة المأسوية التي عاشوها بطريقة تجعل المستمع إلى الحكي يقشعر جلده أو يقف
شعر رأسه بفعل الوقع الحزين والمروع لذكرياتهم. إن ما تعرضوا له في السجن من
أساليب تعذيب وإرهاب جسدي ونفسي وفكري لا يمكن أن يمارسه بشر على البهائم، ولم
يحدث في أي عصر من عصور التوحش. شيء فظيع، مقزز، حقير يدعو إلى البكاء والكمد والتحطم
النفسي.
حين كنت أعمل صحفيا في اللجنة
الصحراوية للاستفتاء، تمكنت من لقاء أحد الذين نجوا بأعجوبة من أحد معتقلات
الصحراويين في المغرب. المعتقل المذكور وهو الخضير محمد عياد الذي قضى سبعة عشر سن
ةف السجون المغربية. كنت أستمع إليه يحكي ولا أستمع إليه في نفس الوقت، وأحيانا
أطلب منه ان يتوقف عن الحكي كي استعيد توازني النفسي والمعنوي وأهدأ قليلا حتى
أكون في حالة طبيعية وتركيز جيد كي أكتب كل ما يقول لي بوعي. يقول الخضير: "
اختطفوني في الليل، وقالوا لي أن الأمر مجرد تحقيق بسيط قد لا يستغرق خمسة عشر
دقيقة، لكن تلك الخمسة عشر دقيقة صارت ستة عشر سنة في قبو مظلم لا أعرف فيه هل لا
زالت الشمس تطلع على الكون أم لا. ماتت في داخلي كل الأحلام والأماني البشرية، ولم
أعد أحلم بلقاء عائلتي أو أحيا بطريقة بشرية عادية مرة أخرى. الشيء الوحيد الذي
كان أمنيتي الأخيرة قبل أن أموت هو أن أرى الشمس كما هي وأصرخ بأعلى صوتي. حين يشتد علينا التعذيب أكثر كانت أمنية رؤية
الشمس والصراخ في الخارج تموت هي الأخرى، وكان كل منا يتصور أن الموت قد يأتي
اليوم أو غدا. كل يوم كانت تأتينا الأخبار
تنقل إلينا وفاة شخص أو اثنين، وإصابة آخرين بالجنون والوهن. انهم يقولون أن الذين
قضوا في مقونة هم حوالي 57 شخصا لكن الكثير منا يشكون في صحة الرقم ويعتبرونه أكبر
من ذلك. "
ويواصل الرجل حكيه الحزين المثير
للبكاء:" كنا نتعذب ونتمزق من الداخل حين نسمع صراخ السجينات الصحراويات
في جناح السجن الآخر. كانت تلك الأصوات تقطعنا من الداخل وتؤثر فينا إلى درجة
البكاء والألم. لا أحد يمكن أن يظل عاديا وفي حالة عصبية ونفسية متزنة حين تكون
امرأة صحراوية حامل تضرب على بطنها وتصرخ وتتألم. كانوا يفعلون ذلك عمدا حتى
يحطموننا نفسيا ويجعلوننا ننهار عصبيا. بعد ان يسمعوننا أصوات النساء تحت التعذيب،
يأتون إلينا ليطلبون منا أن نتبرأ من قضيتنا ونرحل إلى المغرب لنعيش هناك ونحصل
على الجنسية المغربية ، لكننا كنا نرفض."
ويصمت قليلا ثم يستعيد حكيه، لكنه
يأتي هذه المرة مشحونا بأثر التعذيب:" أنظر، يقول لي، لقد دخلت السجن
شابا، وخرجت منه ورأسي أبيض بالكامل. الذين تركت في المهد وجدتهم رجالا والبعض
منهم تزوج، والذين ولدوا بعدي لم أعرفهم، والذين كنت أعرف تغيرت صورهم وملامحهم،
وحتى هم حين أبصروني، كانت عيونهم تعكس شيئا من الشك والريبة، فهم لا يصدقون أن
هذا الذي أمامهم هو أنا. ستة عشر سنة وهم يسمعوننا السب والشتائم والكلام البذيء
يوميا. مع مطلع كل يوم يسمعوننا سيلا من الشتائم التي تخدش الكرامة وتجرح الأعماق
والوجدان. تستطيع ان تتلقى العصي والهراوات، لكن مثل ذلك التعذيب لا تمكن مقارنته
بالتعذيب النفسي والمعنوي. التعذيب مروع ومخيف وإجرامي، ولا أحد يمكن أن يتصوره،
وحتى الذي يحكيه يحس ان المستمع إليه يراوده شك في صحة ما يسمع. إذا لم تدخل
زنزانة التعذيب وترى بعينيك ذلك فلن يخطر لك ذلك على بال."(1)
أما أساليب التعذيب الجسدي والنفسي
فقد ابتُكرت بطريقة شيطانية، فهم يدمجون التعذيب الجسدي والنفسي في آن واحد، ومن
أشهر هذه الطرق:
- طريقة الطائرة: يلقون
السجين على بطنه فوق الأرض، ويقومون بربط أرجله ويديه، ويدخلون قضيبا حديديا ضخما
من اليدين حتى الرجلين ويرفعونه بآلة، ويربطونه بين عمودين حديديين ويبقى معلقا في
الهواء، ثم يضعون فوقه حملا ثقيلا،
ويضربونه بالقضبان الحديدية والبلاستيكية، وأثناء دقائق يفقد السجين الوعي
ولا يستفيق إلا وهو[1] في
الزنزانة مبللا بدمائه.
- الطريقة الثانية هي ما يعرف
بطريقة الدجاجة المشوية: يجلسون الشخص ويشدون يديه أمام ركبتيه، ويدخلون القضيب
الحديدي بين الركبتين والذراعين ويرفعونه إلى أعلى بحيث يكون رأسه في الأسفل،
ويبدؤون الدوران به ويضربونه على أي موقع منه تصله العصا خاصة الرأس والرجلين.
- الطريقة الثالثة هي الصدمات
الكهربائية: يجردون السجين من ملابسه، ويربطونه على طاولة من الخشب ثم يشرعون في
كيه بأعقاب السجائر، ويوصلون أسلاك الكهرباء بالمناطق الحساسة من الجسم حتى يفقد
السجين الإحساس.
وحسب نفس المعتقل السابق،
فإن هناك الكثير من الطرق الأخرى مثل طريقة ربط الجسد على طاولة وترك الرأس متدليا
إلى الأسفل في الفراغ، ثم يبدؤون صب الماء البارد قطرة قطرة على جبهة السجين حتى
ينهار تحكمه في أعصابه، وهذا الصنف من التعذيب لا يطاق.
ويتفنن السجانون في طرق التعذيب حتى لا يكاد السجين عدها. من
بين هذه الأساليب مثلا:
ـ الضرب المبرح على الأماكن سهلة الكسر مثل الوجه الأسنان والعظام والجمجمة. .
- الضرب
على الأرجل حافية وعلى البطن بقضبان من الحديد بعد تكبيل الشخص ووضعه على أرضية
جافة.
ـ سكب ماء البالوعات على جسد الشخص وهو عار..
ـ الأسفنج، وذلك بوضعه و هو مبلل
بسائل يحمل روائح كريهة على أنف الضحية بهدف خنقه.
ـ وضع رأس الضحية لعدة دقائق في مخزون أو في صهريج
للمياه.
ـ تكبيل يدي ورجلي الضحية و وضعه في زنزانة ضيقة لمدة 24 ساعة..
ـ استعمال الأسلاك الكهربائية من خلال وضعها على الأماكن الحساسة للضحية .
ـ الكي بالسجائر في العنق والأماكن الحساسة من
الجسم.
ـ سكب مادة حارقة على جسم الضحية.
ـ تشويه وجه الضحية بسكين حادة أو موس الحلاقة.
ـ إجبار الضحية على الوقوف على رجل واحدة إلى الجدران و يداها فوق الرأس.
ـ التجريد من الملابس.
-وضع قطعة من القماش مبللة بسائل
نتن على عيني الضحية لمدة طويلة.
.
ـ وضع الضحية بكامل ثيابها
الليل كله في صهريج مخصص للمياه.
ـ إزالة أظافر يدي و رجلي الضحية أو التهديد بإزالتها بواسطة ملقاط أو آلة حادة.
ـ الاغتصاب أو التهديد به بواسطة القارورات الزجاجية أو العصي من خلال دفع الضحية إلى الجلوس عليها.
ـ استعمال مكبرات الصوت و الضوضاء و الموسيقى الصاخبة و صراخ ناس يتعذبون.
ـ تعذيب الضحية أمام فرد أو أفراد من عائلته.
ـ استعمال الكلاب لعض الضحية.
ـ التهديد بالقتل بواسطة مسدس أو آلة حادة.
ـ وضع رأس الضحية كله في بلاستيك بهدف خنقه.
ـ الكي بواسطة آلة من الحديد .
ـ تعريض الضحية للإهانة عن طريق ربطه إلى الأسفل
مع كرسي.
ـ تكديس الضحايا ووضعهم جماعة واحدا فوق الآخر.
ـ ممارسة الفلقة عن طريق إخراج رجلي الضحية من وسط الطاولة المعدة لهذا الغرض.
ـ ربط رجلي الضحية مع عمود من الوسط مع ممارسة الضرب عن طريق عصا غليظة.
ـ ربط الضحية إلى الأعلى وسط عمود
محمول من طرف شخصين يمينا و يسارا مع تكبيل يدي
الضحية و ممارسة الضرب بواسطة أحزمة أو عصي.
ـ ربط الضحية إلى الوراء مع كرسي و إرغامه على الجلوس ورأسه تحت مصباح للكهرباء.
ـ ربط الضحية مع كرسي ووضع رجليه في ماء ساخن.
ـ تعريض الضحية لعدم الأكل و الشرب لعدة أيام وسجنه في زنزانة انفرادية تفتقد لأبسط الشروط الإنسانية.
ـ التبول على الضحية، و تحديدا في فمه أو جسمه و
إرغامه على شم خرقات مبللة بروائح نتنة و كريهة.
ـ المنع من النوم.
ـ تكسير أسنان المعتقل وبعض عظامه وتركه بدون
دواء يتألم.
وإذا كانت هذه بعض أنواع التعذيب
المادي والجسدي التي تعرض لها الصحراويون في السجون المغربية فإن أنواع التعذيب
المعنوي كانت أكثر تدميرا مما يمكن أن يتصوره أي ذي خيال جامح. كان التعذيب
المعنوي، بالإضافة إلى السب والشتم وكل ما يوجد في قاموس الشارع المغربي من عبارات
بذئة، يتركز خصوصا على ترك السجين في زنزانة خاصة ضيقة يصارع الوحدة والقلق
والظلام والبرد والحر. فحتى يحطمون السجين معنويا ويجعلونه يفقد صوابه وعقلة،
كانوا، منذ الوهلة الأولى، يجردونه من كل إنسانيته ويحولونه إلى كائن حي يتنفس فقط
أو رقم. فحين يقع شخص صحراوي بين أيديهم، وبعد أن يحطمونه ويكسرون أضلاعه وعظامه
ويغرقونه في دمه، كانوا يقولون له" أنسى أنك إنسان. من الآن أنت الحمار رقم
كذا... أو الكلب رقم كذا.... إذا نادينا على الحمار رقم كذا أسرع وإلا تشبع
هراوة."
بعد ذلك يذهبون بالسجين إلى
الزنزانة ويتركونه في ظلام دامس لعدة سنوات دون أن يعرف أين هو وفي أي يوم وأية
سنة هو، ودون أن يعرف أيضا هل هو في حلم أم في يقظة. فحسب بعض الشهادات فإن بعض
السجناء، بسبب العزلة في الظلمة لعدة، أصبحوا يشكون فعلا في أنفسهم ويتصورون أنهم
أصبحوا كائنات غير بشرية. كانت الذاكرات تفقد يوما بعد يوم بعضا من ذكرياتها ومن
ما كانت تحتفظ به. فالزنزانة هي أشبه بقبر مظلم؛ الفرق بينها والقبر هي أن السجين
حي لكن في قبر بكل المواصفات. لا يوجد ما يتحرك حوله ما عدا حركة الحشرات الكبيرة
التي كانت تعج بها الزنزانة مثل القمل الكبير الاسود والحشرات. والزنزانات مبنية
بطريقة خاصة، بحيث تتحول في الصيف إلى فرن تترك ملامسته في منتصف النهار حروقا على
الجلد، وفي الشتاء تتحول إلى ثلاجة تزرقُّ عروق الجلد فيها بسبب البرد . فالسجين
إذا كان طوله أكثر من متر وخمسين سنتم لا يستطيع أن يقف ولا يستطيع أن يمارس
الرياضة ولا أن يصلي. ولا يوجد في الزنزانة أي شيء، فحتى الضوء لا ينفذ إليها.
فعلى مدى سنوات طويلة كان السجين
لا يسمع أي شيء ما عدا حركة النافذة الصغيرة حين يفتحها السجان مرة في 24 ساعة
ليقدم للسجين بعضا من الماء الساخن كأكل وشرب في نفس الوقت. كانت حقوق الإنسان
وحقوق والحيوان معدومة في تلك الزنزانة وذلك السجن. فالماء غير موجود ولا يدخل
للزنزانة إلا بعد أن يتأكد السجانون أن سجينا ما سيموت من العطش. ولا يقدمون له
ماء صالحا، إنما ماء بالوعات له طعم الحمض والنفايات وماء جافيل. وحتى يمحون
ذاكرات المساجين من كل ما له علاقة بالماضي وعلاقة بالخارج، كانوا يجوعون السجين
ويعطشونه إلى درجة لا يصبح يحلم ولا يفكر إلا بالماء والأكل. ولا توجد بالسجن
مراحض؛ فالسجناء يقضون حاجاتهم في نصف دلو موضوع بجانبهم ولا يتم إفراغه إلا مرة
في الأسبوع بعد أن يمتلئ من القاذورات.
إن الشهادات كثيرة وموجعة والبعض
من هؤلاء الناجين من السجون المغربية يرفض حكيها على النساء والأطفال دون سن
الرشد.
مثل أخر هو حالة المعتقل محمد
لحبيب الركيبي أحد سجناء أكدز ومكونة، والذي اختطف يوم 31مارس 1976م. تقول شهادته
المترعة بالمأساة: " كنا أكثر بكثير من 300 شخص في مكونة ومعنا 50 امرأة.
عند باب أي سجن نذهب إليه ينزعون عن أعيننا الغطاء وينهال الحراس المدججون
بالقضبان الحديدية والهراوات الغليظة علينا بالضرب، ولا يدخل إلى الزنزانة إلا من
غرق جسمه في الدم، خاصة الرأس والوجه. بين أكدز ومقونة تركنا خلفنا الكثير من
الشهداء، ونظرا لصعوبة معرفة الناس وانعدام التواصل بيننا لا نستطيع أن نعرف من
مات ومن بقى حيا. أنا مثلا كنت شاهدا وفاة
الكثير منهم."([2])
مع مرور الوقت أصبحوا ا جميعا
ينتظرون الموت. كانوا كلما مات شخص يأتون إليهم ليطلبون منهم ترك السياسة وإلا
ستكون نهايتهم، هم أيضا، الموت في السجن مثل نهاية مواطنيهم الذين ماتوا. كانوا يرفضون فيزداد العذاب، يتضاعف، ومعه تضعف
مقاومة الجسم ويقترب الموت أكثر، خاصة بعد أن تتورم الأطراف، ينسل الشعر وتتساقط
الأسنان أو تصبح تتحرك. لقد ظهرت على أجسادهم، كلهم أو أكثريتهم، لطخات زرقاء،
وبدأت جلودهم تتفسخ وتتساقط أرضا. لم يعودا يستطيعون أن ينامون في الليل بسبب
الألم، وحين لا يستطيع الحراس النوم، بسبب أنينهم يسقونهم شرابا منوما لا لكي
ينامون، لكن لينام الحراس. قضوا سنوات لا يعرفون بين الليل والنهار، بلا أكل
إنساني وبلا ملابس، وحين يطلبون ما يلبسون يرد عليهم الحراس باستهزاء:" حين
تموتون سنلبسكم ملابس بيضاء جديدة ونظيفة." ويشيرون إلى الغرفة التي توجد
فيها الأكفان. كان الحراس أشخاصا لهم آذان
وعيون لكن لا قلوب لهم. كان السجناء يعرفونهم ويرون وجوههم، لكنهم كانوا يقولون
لهم باستهزاء:" لن نخفي وجوهنا عنكم لأننا لا نخاف منكم، لأنكم لن تخرجوا من
هنا." ويمعنون في تعذيبهم نفسيا فيقولون لهم :" لن يراكم أهلكم أحياء
ولا موتى لأنكم إذا متم ستدفنون في الليل في مكان مجهول حتى لا يزوركم أحد، أو
ستذوبون في الحامض."
كان التعذيب آية في الوحشية. فحتى
يتم تهييج الحراس والجلادين كانت إدارة السجن توفر لهم المخدرات والخمور فيسكرون
ويفقدون الوعي. وتحت تأثير التخدير والسكر يفقد الجلاد تحكمه في عقله وقلبه، يفقد
إنسانيته ويتحول إلى بهيمة هائجة. حين يتأكدون أنهم أصبحوا في وضع هائج يطلقونهم
على المساجين. أحيانا يطلقون عليهم الكلاب المدربة فتنهش أجسادهم وتعضهم، أو يضعون
المتمردين منهم، في عز الشتاء، في ثلاجات شاحنات مخصصة لنقل السمك المجمد
واللحم.
كل الشهادات تتشابه وتتقاطع في
الفظاظة التي تهدف إلى التصفية الجسدية والنفسية لكل أولئك الصحراويين الذين ذهبوا
إلى السجون المغربية.
في
شهادة أخرى لمناضلة صحراوية، سكينة جد أهلو، نستمع إلى نفس الوقع الحزين لذكريات
السجن:" اُختطفت([3])
في ساعة متأخرة من ليلة 15/11/1981 وعلى مرأى من زوجي الذي لم يكن قادرا على
فعل أي شيء. تركت أبنائي مرغمة وهم نيام. اقتادني رجال من أجهزة البوليس السرية إلى
مركز بالعيون. وابتدءا من تلك الليلة نفسها، توالت رحلة التعذيب الوحشي، الهمجي،
الجهنمي بشتى أنواعه. لقد ربطوني بأطرافي الأربعة إلى أخشاب أقرب ما تكون إلى حواجز القفز من حيث
الشكل. كان وجهي إلى الأرض وقفاي إلى السماء، وكنت شبه عارية تماما. ثم بدؤوا
ينهالون علي دون انقطاع ولا شفقة بالهراوات والأسلاك الكهربايئة المفتولة ويركلونني
بأيديهم وأرجلهم تحت وابل لا ينقطع من السب والبصق والقذف والكلام السافل. وهذا النوع من
التعذيب يطلقون عليه اسم "الطيارة". وموازاة مع الضرب المبرح كانوا
يكتمون صراخي وأ[4]نفاسي
بخرقة التجفيف المتسخة بعد أن يبللوها بالماء العفن الممزوج مع الملح و
جافيل الذي يستعمل في تبييض الملابس. بعد ذلك كانوا يلجئون إلى
وسيلة تعذيب أخرى هي ما يسمونه بالدجاجة المشوية: يكبلونني وأنا في وضعية
القرفصاء، ثم يبدؤون تعذيبي. إن الطريقة الوحشية المذكورة تجعل الشخص غير قادر على
الحراك أو تحاشي الضربات. بعدها مباشرة
يلجئون إلى اللطم والركل مرفقا بأسلوب ساخر محط للكرامة البشرية تجعل الشخص يتمنى
لو كان مات قبل إن يتعرض لهذا النوع من التعذيب. حين كانوا يشعرون أنني تحطمت
تماما،وحتى يوقظونني من غيبوبتي، يبدؤون بإطفاء أعقاب السجائر في أماكن حساسة من
جسمي. حين يجربون كل هذه الطرق غير الإنسانية، كانوا يلجئون إلى حرماني من النوم،
وفي أحيان كثيرة يحرمونني من الأكل والشرب كذلك.استمرت هذه الحالة بمركز الشرطة
بالعيون أكثر من شهر، بعدها نقلوني إلى درب مولاي الشريف حيث كانت تنتظرني مرحلة
أخرى من التعذيب الجسدي والنفسي. من درب مولاي الشريف إلى أكدز لأشارك محنة العذاب
مع مئات المختطفين الصحراويين(سوء التغذية لحد الموت، انتشار الأمراض المعدية
مع انعدام العلاج، الضرب المبرح بهراوات الفؤوس وغيرها). بعد سنة في أكدز نُقلت
إلى قلعة مكونة التي كانت أسوأ بكثير من المحطات ذكرتها
سابقا. بعد إطلاق سراحي سنة 1991م، بعد قضاء عشر سنوات في السجن دون
معرفة ما كان يحدث في العالم الخارجي، فوجئت بفقدان رضيعتي التي اختطفوني عنها وهي
نائمة ووجدتها قد ماتت من الجوع بعد اختفائي بأسابيع قليلة، وجدت أيضا
أبنائي قد تركوا الدراسة، أما ابني الوحيد فوجدته يعاني من أزمة نفسية خطيرة من
جراء ما حدث. ولم يتوقفوا عند هذا الحد بل تمت ملاحقتي ومضايقتي واختطافي مرة ثانية سنة
1992 مع ابني. قضينا خلالها أكثر من سنة من الاختفاء بالعيون حيث العذاب المشين
والمحبط لكرامة الإنسان"
ويطرح سؤال نفسه على الناجين من
ظلام وظلم السجن المغربي: " أين ذهب المفقودون.؟ لماذا لا يدلُّون الناس على
قبور ذويهم إذا كانوا ماتوا.؟ سؤال صعب جدي ولا توجد إجابة دقيقة له ماعدا إجابة
واحدة وهي" أنهم جميع ماتوا في السجن ودفنوا في الليل في أماكن مجهولة في
مقابر مدينتي اكدز ومكونة."
مات الكثير من الصحراويين في
السجون المغربية وبطريقة بشعة تجعل الإنسان يطأطئ رأسه حين يسمعها. في السجن كانوا
يُذوبون الناس بالحامض حتى لا يتعبون في حفر قبور لهم. في سنة 2006م أكتشف لجنة
"الحقيقة والإنصاف" المغربية مقابر جماعية للمعتقلين الذين ماتوا في
السجون. كان عدد الذين تم العثور على عظامهم حولي 54 شخصا منهم 43 صحراويا في حفر
جماعية قرب سجني مقونة وأكدز. الآن قد لا يريد الصحراويون التعويض المادي لذويهم
الذين فُقدوا نهائيا، لكنهم، أكثر من ذلك، يريدون معرفة أين هم. يقول احد أقارب
المفقودين وهو يتألم مجروحا:" أعطوني مكافأة مقابل فقد والدي، لكنني أريد أولا
أن أعرف أين دُفن ولماذا مات.؟ ما هي الجريمة التي ارتكب.؟
هكذا يتحدث الناجون من السجن بحسرة
عن مثل هذه المأساة البشرية التي لم تحدث في أي مكان من العالم ما عدا في معتقلات
النازية أو في كمبوديا أثناء حكم بول بوت زعيم الخمير الحمر. البعض يقول "
كنا نرى الدود يخرج من أجساد المرضى المرمين في ساحات السجن، لكن لم نكن قادرين
على فعل أي شيء بسبب أننا كنا غير قادرين نحن أيضا على الحركة ولا نجد من نتحدث
معه عن هذه القضية. كنا نخشى أ ن يحصل لنا ما حصل مع رفاقنا في السجن،
فنبكي."
وفي مرحلة لاحقة بدأت الحقائق
المرعبة تنكشف يوما بعد يوم. كل الذين كانوا مجهولي المصير تم التأكد أنهم ماتوا
جميعا تحت التعذيب، بسبب الاغتيال، الإعدام. فبالرجوع فقط إلى ما اعترفت به
المملكة المغربية كان الذين تمت تصفيتهم كثيرون جدا: 535 منهم الأطفال، النساء،
الشيوخ والرجال.
يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء