المقاومة الصحراوية السلمية: الإمعان في الانتفاضة هو الحل(دراسة)

العلم الأزرق ... والعلم الأحمر

نهاية سنة 1987م عرفت حدثا مهما في تاريخ الكفاح السلمي الصحراوي في المدن المحتلة. في هذا التاريخ بالذات كان الاحتلال المغربي يراهن على أنه استراح من الصداع الذي تسببه له المناطق المحتلة، وينتظر إن تنتهي الحرب ليستريح من كل الجبهات المفتوحة. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان. فغداة زيارة البعثة الأممية التقنية إلى المنطقة المحتلة، في ديسمبر87م، والتي تفعل ذلك أول مرة منذ 75م، استغل المواطنون الصحراويون الحدث وحضَّروا للقيام بمظاهرة سلمية أمام البعثة ليطالبوا بحقهم في تقرير المصير، وليشعروا العالم أن وطنهم لا زال واقعا في دائرة الاحتلال المظلمة.. على مستوى آخر كانوا يريدون إن يبعثوا برسائل لصحراويي اللجوء والشتات وللمحتل المغربي نفسه تقول أنهم لازالوا قوة قادرة على الابتكار.  ففي مدينة العيون المحتلة خرج الصحراويون في مظاهرة سلمية عارمة لم تشهد لها المدينة مثيلا منذ مظاهرات سنتي 70و 75م. ورغم شراسة القوات المغربية، وشدة الإجراءات الأمنية إلا أن المظاهرة حدثت، ورفعت أعلامها ولافتاتها، وصدح أبطالها بشعاراتهم ومطالبهم الوطنية. ومع أنها كانت مظاهرة سلمية إلا أن المخزن لم يستطيع كبح نرفزته وهيجان أعصابه فأعمل في المتظاهرين العصا والسيف والمسدس. ففي ساعات قليلة تم اعتقال أعداد كبيرة من المتظاهرين( 300 شخص) وجرح العشرات بالإضافة إلى قيام حملة ملاحقات مسعورة لم تتوقف إلا بعد أسابيع من الحدث.
كان الفعل الصحراوي ذاك إشارة رمزية للعالم تعني أن الشعب الصحراوي حريص على السلم ويفهم منطق العصر ويرجو الكثير من الأمم المتحدة، لكن،في نفس الوقت، لن يتراجع عن مطالبته بتقرير مصيره.. إن الذي استشعره الصحراويون، بعد الحدث وما تلاه، هو أن الأمم المتحدة علمت بما لحق بهم من تنكيل وعمليات اعتقال، لكنها تعاملت مع الوضع كأن الأمر لا يهمها أو لم يقع في مكان تحصره دائرة اختصاصها.
لقد وقع الحدث في وقت بدأت فيه الطبول تُدق، تبشر بقرب التوصل إلى اتفاق بين أطراف النزاع ترعاه الأمم المتحدة، ويُمكن، في الأخير، الشعب الصحراوي من تقرير مصيره وفقا للشرعية الدولية. في سنة 1991م جاءت الأمم المتحدة برزنامة وأجندة مختصرة مغرية على شكل مخطط محدد باليوم والشهر يقول: سبتمبر1991م وقف إطلاق النار، يناير 1992م يُنظم الاستفتاء. أي أن الاستقلال سيكون في خلال خمسة اشهر. 
والحقيقة أن مخطط التسوية الأممي الإفريقي زرع حقولا من زهور الأمل في صدور الصحراويين، وأحيا في نفوسهم حلما سحقته عمليات التصفية النفسية والجسدية التي تعرضوا لها منذ سنة 75م. من جهة ثانية وضعت الأمم المتحدة بين عيني الصحراويين أمنية جميلة حلموا بها عقودا من الزمن وهي أن الاستفتاء، طبقا للمخطط، سينظم في غضون شهور ليس إلا.. حدث وقف إطلاق النار، وانتشرت القبعات الزرقاء في سبتمبر 91م، وأعيدت البنادق إلى مخازنها، وبدأ الصحراويون يرسمون آمالهم ويعدون الأيام التي تفصلهم عن تحقيق الحلم الجميل. كانوا يريدون أن يلتقوا في وطنهم لتنتهي مأساة شتاتهم وتشريدهم وقهرهم إلى الأبد.  والحقيقة أن أغلبيتهم صدقت أن الاستفتاء سينظم، وأن علم الدولة الصحراوية سيرفرف فوق العيون ونيورك في بضعة أشهر ولأول مرة في التاريخ. أنه شيء يجعل الصحراوي يحلق في الهواء فرحا بعدما قدم الدم والعرق وتحمل المأساة في سبيل تحقيق أمنية الاستقلال.
لكن الذي لاحظه الصحراويون من أشياء غير واضحة في تصرف الأمم المتحدة منذ وقف إطلاق النار، جعل الأمل يتجمد في صدورهم. ما أن حدث وقف إطلاق النار حتى طوق المغرب البعثة الأممية، وبدأ يعاملها باحتقار وازدراء، وفرض عليها أن تتصرف وفق أوامره هو لا وفق أوامر المبنى الأزرق في نيورك.  وما زاد الوضع السيئ تفاقما هو تحريف أمين عام الأمم المتحدة، بيريز دي كويار، لمخطط التسوية بتاريخ 19 ديسمبر 91م، وهو العمل الذي جعل العملية السلمية في الإقليم تقع في دائرة التعجب والاستفهام والشك. إن ما حصل مما لم يكن متوقعا من عمل متواطئ جعل جوهانس مانس، مسئول البعثة الأممية المينورصو، يقدم استقالته كعلامة اعتراض على الطريقة التي تسلكها الأمم المتحدة في الصحراء الغربية. 
لم ينظم الاستفتاء في جانفي 92م، ولم ترسل الأمم المتحدة أية إشارة يفهم منها أن هناك صرامة موعودة تجعل مؤشر العملية السلمية في الصحراء يسير بوضع طبيعي. فحتى عملية رفع علم الأمم المتحدة الأزرق لم تتم فوق المقر الذي خصص لها في العيون، وكان الموظفون الأمميون كلما رفعوه يأتي المغاربة ويخفضونه، ويعلقون مكانه علمهم الأحمر ذي النجمة الخضراء. فحتى في أماكن سكنى البعثة الأممية عمد المغاربة إلى إحاطتها بغابات من الأعلام المغربية حتى لا تظهر أية إشارة تدل أن هناك منظمة دولية في المنطقة. كان رجال الأمن المغاربة يقومون بنهر أعضاء البعثة الأممية قائلين لهم باستهزاء: " العلم المغربي بطاقة حمراء، وإذا لم تفهموا ستطردون، ولن تنظموا أي استفتاء في الإقليم ولو بعد مئة عام."
ووصلت إلى الصحراويين أخبار سيئة عن الأمم المتحدة؛ البعض من موظفيها باع للمغرب اسطوانات سلمتها له البوليساريو لتساعد في إحصاء السكان، والبعض الأخر يعمل مع المغرب مباشرة. وحتى مسئول البعثة آنذاك، مثل جينسين، كان واقعا تحت سلطة وتسلط الإدارة المغربية. ففي حين طلبت الأمم المتحدة تسجيل الصحراويين في كناريا والخارج، كان أحد المسئولين المغاربة يقول في اجتماع بحضور مسئول البعثة جينسين:" لن يتم هناك تسجيل للمصوتين في كناريا ومدريد. لن يحدث هناك تسجيل حتى لو كان ذلك من عمل جينسين. إذا كنت أنا لا أريد جينسين أن يسجل البدو في الصحراء سوف لن يفعل."
كان يظهر في الأفق أن لون العلم الأممي الأزرق بدأ يفقد لونه، ويكتسب لون أخر لا يوجد في ألوان الطيف..

الربيع والعصا...
إن ما حدث من انتهاك بشع لحقوق الإنسان، وما لحق ببعض المجموعات العرقية الصغيرة في الكثير من بلدان العالم، خاصة في الصحراء الغربية بعد كشف السجون السرية التي كانت مخصصة لإبادة الصحراويين في مكونة وأكدز، جعل العالم الحقوقي والمدني يضرب كل أجراس الإنذار ويطالب بوضع حد لهذه الفظاعات. إن التقارير التي كانت تتسرب بسرية تامة من الصحراء الغربية وحراك الحقوقيين الصحراويين والحالات الفظيعة التي حدثت، فرضت على العالم أن يعقد  مؤتمرا دوليا في فيينا بالنمسا لوضع إعلان وبرنامج خاص بحقوق الإنسان في حزيران 1993م.

على الأرض بدأ التململ في الصحراء الغربية يحدث، وبدأ الريب يتسرب إلى النفوس حين ظهر ضعف البعثة الدولية في الإقليم. فحتى للاجئين الذين حطموا بيوتهم الطينية الواهنة وباعوا ممتلكاتهم البسيطة وصنعوا صناديق كبيرة سموها صناديق العودة، شعروا أن الأمم المتحدة خذلتهم، ورأوا السفينة التي تحمل أمنيتهم الجميلة تُحول إلى ميناء أخر.
في غمرة واقع ضبابي مثل هذا، بدأت بعض الأسئلة تُطرح أو تطرح نفسها: هل في مقدور الأمم المتحدة أن تفعل شيئا للصحراويين في التسعينات هي التي تخلت عنهم في السبعينات.؟ ما الفرق بين الأمم المتحدة آنذاك والآن. .؟
أسئلة سرعان ما أجاب عنها الوقت الذي كان يمر بسرعة. بدأ أن الأمم المتحدة غير قادرة على رفع علمها فوق مبنى في العيون فما بالك أن تقدر على تنظيم استفتاء تقرير مصير شعب.
  جاء شهر أكتوبر 92 دون أن تظهر إشارة واحدة بسيطة تنبئ أن الأمم المتحدة ستقدر على الوفاء بوعد من وعودها في إعادة الحق إلى أهله.
وجد الصحراويون في اللجوء أنفسهم واقعين تحت رحمة بعثة أممية لم تفعل أي شيء ما عدا وقف إطلاق النار. في مجلس الأمن كان الضغط الدولي الفرنسي والأمريكي يُحشد مع مطلع كل يوم يتوعد من يقوم بخرق وقف إطلاق النار أو يفكر في العودة للحرب. كان واضحا أن الطرف المستهدف هو الطرف الصحراوي الذي تم انتزاع منه أهم أو راق ضغطه: الحرب.    

ردا على تماطل الأمم المتحدة غير المبرر، وبرودة تعاملها مع القضية الصحراوية الساخنة، تحول خريف سنة 92م إلى ربيع صحراوي. ابتداء من يوم 10كتوبر 92م كانت كل المدن الصحراوية، بدون استثناء، على موعد مع مظاهرات الاحتجاج على الدناءة الأممية وعلى الاحتلال الذي بقى يمارس وظائفه الاستعمارية بتلذذ دون إعطاء أدنى اعتبار لمشاعر الصحراويين والقانون والعالم.
ورغم ما حاول المغرب أن يتظاهر به من وداعة منذ أطلق سراح بعض المعتقلين الصحراويين في صيف 91م، إلا إنه عاد إلى طبعه المشين أثناء قمع انتفاضة 92م. قام بتفريقها ببشاعة وعلى الطريقة المغربية وبواسطة العصا المخزنية التي يعاقب أي مخزني يستعملها حين يظهر أن عصاه غير ملطخة بدماء الضحايا بعد التدخل.
إن قمع انتفاضة 1992م حدث على بعد أمتار فقط من تواجد بعثة الأمم المتحدة، وحسب المشاركين في التظاهرة السلمية،  فإن هذه البعثة أغلقت أبوابها وأدارت ظهرها للضحايا الذين كانوا يريدون الاستنجاد بها. فبعد المظاهرة أتجه بعض الجرحى والمعطوبين إلى مقر الأمم المتحدة، لكنها رفضت استقبالهم ورفضت مساءلتهم عن أسباب ما حدث لهم أيضا. أكثر من ذلك تم اعتقال الكثير منهم عند مقرات البعثة نفسها.
لقد كانت الخسائر فادحة في صفوف المتظاهرين المسالمين: الاعتقالات، التعذيب، المتابعات وهناك من أصيب بعاهة أو فقد عينه بفعل الهمجية المغربية. أما الذين اختفوا بعد التظاهرة فهم كثر، وأشهر حالاتهم هي حالة الشبان الخمسة الذين اعتقلوا في مدينة السمارة بعد مشاركتهم في فعاليات المظاهرة المذكورة، والذين قضوا تسعة أشهر في الاختفاء القسري بمكان سري لا يعرفون عنه أي شيء. في 29 جويلية93 قدموا إلى المحكمة العسكرية الدائمة للقوات المسلحة الملكية في الرباط، وحكمت عليهم ب20سنة سجنا نافذة يقضونها في أكادير، ولولا تدخل المنظمات الدولية لقضى هؤلاء مدة الحبس مثلما أرادت المحكمة.

ورغم أن الصحراء، منذ بداية الاحتلال،  كانت دائما ركحا للتناكف بين العصا المغربية القاسية والراية الصحراوية الملونة، إلا أن انتفاضة 1992م شكلت بصراحة انفتاحا جديدا على مرحلة نوعية من الكفاح الصحراوي السلمي الطويل الأمد. فهي جاءت في وقت تواجدت فيه الأمم المتحدة في الإقليم  كإشارة لتسليم العالم  بحق الشعب الصحراوي ، ثم أن العالم آنذاك كان قد قال وداعا للسلاح وبدأ ينادي بالكفاح السلمي للمطالبة بالحقوق. الشيء الآخر المهم في تلك الانتفاضة أنها لم تكن سحابة صيف، بل كانت البداية لمسلسل طويل من الكفاح السلمي المتعدد الأشكال والأساليب. فبعدها لم تتوقف الانتفاضة في الوطن المحتل يوما واحدا، بل أصبح فعلها الاعتيادي متنفسا للصحراويين وشفاء لغليلهم بعد تخلي الأمم المتحدة عنهم واكتفائها بالقيام بدور حراسة وضع الاحتلال.

إن اللجوء إلى أسلوب الانتفاضة السلمية يعتبر تكيفا سريعا للصحراويين مع المناخ العالمي الذي ساد آنذاك، وبدأ ينادي بالديمقراطية وحقوق الإنسان ويرفض الحرب. أن لجوء المواطن الصحراوي الغاضب إلى المقاومة السلمية راجع إلى أن المبادئ الدولية وقوانين الإنسان تنطبق كلها على قضيته خاصة حق تقرير المصير الذي يعتبر أهم حق في القانون العالمي.
في السنوات التي تلت تلك الانتفاضة فرض العلم الصحراوي وجوده فوق مباني المدن المحتلة، وأصبح الناس أكثر جرأة للخروج إلى الشارع للتعبير عن مطالبتهم بحقهم في الاستقلال. فمن خلال تحليلنا الشخصي لانتفاضة 1992م، نعتقد أنها بعثت رسالة واضحة وغير مشفرة إلى العالم وإلى الصحراويين مفادها أن المغرب، رغم أن العالم من حوله يتغير جغرافياً وتاريخيا ويقفز إلى الأمام، فإنه هو لا زال شاهرا عصاه في وجه الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويتجاهل القوانين الدولية خاصة حق تقرير مصير الشعب الصحراوي..


يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء