لم تكن تلك الليلة روتينية في حياة المخيم. كان
السكان ينتظرون وفدا قادما من الأمم المتحدة التي يفصلنا عنها يومان بالطائرة.
وليس هذا فقط، فالشيخ الذي يحرس مبنى الإدارة ويدق الجرس، ويسمع أخبار المذياع،
ويصدق كل ما يقول خاصة إذاعة لندن قال لمجموعة من الشيوخ: الأمم المتحدة يفصلنا
عنها البحر، وإذا أتى منها وفد إلى مخيمنا فهذا يعني أن الأمر مهم."
في الحقيقة، لم يكن الكثير من السكان يتحدث عن
الوفد بقدر حديثه عن الطقس في الصباح الموالي. كانت التحولات الجوية، خاصة الريح، مصدر إزعاج كبير يملأ نفوس هؤلاء اللاجئين. فهم
مثلما تقول المرأة التي تأتي دائما الأولى إلى الساحة حاملة علمها الكبير:
"كلما زرانا وفد أجنبي مهم أو خلدنا ذكرى وطنية كبيرة تهب علينا الريح فتعبث
بما أعد المخيم من رسومات ومظاهر بهجة خلال شهور. في الكثير من المرات مزقت الريح
العلم الذي كنت أحمل "
يتوافد الناس ببطء إلى ساحة الاستقبال. في هذا
المكان يستقبل السكان الوفود الرسمية الأجنبية التي تزور هذا المخيم منذ سنوات لا
أحد يعرف، الآن، عددها. يأتون ببطء لتعودهم على تأخر مجيء الوفود بساعات طويلة تزرع
الألم في الرأس وتُنزل الدم في الأرجل. يسمع المتفطن أن الكثير من هؤلاء يتحدث عن
الزمن والريح. التساؤلات والتخمينات منصبة على قراءة كف الطقس، وتفاصيل وجه السماء
والأفق وربما الغيب..الجدل متفاقم حول
قدوم الريح أو عدمه. يقول أحمد الترية أنها - جزما- قادمة من الساحل، وأن
وجه السماء كان كئيبا ليلة البارحة وتلك علامة لا تخطيء على مجيئها. ويرد عليه
سعيد الجريح بقوله، أنه حين استيقظ ليصلي نظر إلى الأفق ورآه محمرا قليلا وقت
الفجر وتلك علامة صفاء الجو. إحدى العريفات قالت أن قارئة كف معروفة في المخيم،
قالت لهم البارحة أنها حين وضعت يدها على التراب التصقت بها حبيبات الرمل وتلك
علامة مجيء الريح. وتقول عريفة أخرى: مانا على فالها". حتى مسئول المخيم
السياسي كان غاضبا بسبب سماعه في النشرة الجوية أن الريح ستهب على صحراء إفريقيا
التي يقيم المخيم في جزء منها. أما الشيوخ الذين يلعبون ظامة عند مبنى الإدارة –
حسب مسئول المخيم- فإنهم يقفلون المذياع عند حديثه عن الأحوال الجوية، لأن المذياع
عند هذه يكذب. نعم، هؤلاء الشيوخ يختلفون مع المذياع في نشرة الأحوال الجوية، ويقولون
أنها أمر غيب وبيد الله وما تقوله الإذاعة بهذا الشأن هو مجرد إشاعات.
لم يمض وقت طويل حتى هبت طلائع هواء قوي ساخن.
لم يكن الهواء ريحا، ولم يكن قويا، لكنه كان مزعجا للعيون والوجوه والأنوف. ورغم
إن الناس اعتادوا على هكذا حالة الطقس في هذه الأرض، خاصة أثناء زيارة الوفود
الأجنبية وتخليد الذكريات، إلا أنهم يصفون غبار العجاج بالمزعج. تقضي عريفات
مخيمنا الليلة التي تسبق الاحتفال يطلبن الله أن لا يأتي لعجاج حتى لا يفسد كل شيء
أعدوه. البعض من الناس يفسر مجيء الريح في أيام الاحتفالات وزيارات الوفود بقوله:"
أن كثرة السيارات التي تتحرك في المكان – خاصة سيارات المسئولين الكثيرة- هي التي
تثير الغبار فيتجمع في السماء حتى يصبح ريحا." ويقول موسطاش لجماعته وهو يمسح
شاربه من الغبار: "أن الريح تأتي مع الوفود حتى تفسد عليها متعة الاستمتاع
بالحفل، وحتى تُغضب الذين سهروا على ترتيب تفاصيل الزيارة." ويضحكون وهم
ينظرون إلى المكان الذي تأتي منه الوفود.
اجتمع الكثير من الناس. كانت هناك المرأة ذات
العلم الكبير المشهورة بحضورها للأحتفالات؛ كان هناك الكثير من الأطفال. كان
الطفل، عبدو، الرسام، يتحدث للأطفال عن انتظاره للريح الحمراء حتى يرسمها في لوحة.
ويقول له طفل آخر: من المستحيل رسم الريح. إنها تمر بسرعة.
في الجانب الأخر كان هناك الشيوخ المعتمدين لدى
الأمم المتحدة بدراريعهم البيضاء والزرقاء.
ويدخل الزمن كبطل أسطوري في حياة هؤلاء الناس
الذين ينتظرون وفدا قادما من وراء البحر يحمل لهم بشرى سلام.
تآلفُ
الناس مع الانتظار الطويل جعلهم يصارعونه بمضغ بعض الأحاديث الملونة. ويسأل المري والترية كهلا كان يحرس الإدارة ثم
أصبح شيخا معتمدا لدى الأمم المتحدة، "هل يتذكر كم مرَّ من الزمن على أول احتفال
أُقيم هنا؟.. يتململ الشيخ، يلملم أطراف دراعته البيضاء وفي نفس الوقت يلملم شتات ذاكرته
في صمت، لكنه في الأخير ينهزم ويقول:" هي ببساطة سنوات طويلة. في البداية كنا
نقول منذ عشر سنوات، وبعد ذلك صرنا نقول منذ عشرين سنة والآن لم يعد أحد يهتم ولا
يسأل منذ متى نحن هنا."
كانت عيون الحاضرين مائلة نحو مدخل المخيم في
انتظار وصول الوفد. يبدو من خلال لغة وجوه الناس وعيونهم أنهم يتمنون أن يأتي
الوفد بسرعة قبل أن يهب لعجاج، وقبل أن تؤلمهم رؤوسهم كثيرا، فهم حسب ما يقول أكثرية
الشيوخ أنهم "فجًروا قبل شرب الشاي". ربما أن قلوب الكثير منهم تخفق في
صمت في انتظار مرور اليوم بسلام. لكن حين زفت ساعة مجيء الوفد هبت الريح، قوية،
عاصفة، وأغرقت الدنيا في عجاج لا لون له أو له لون لكن لا أحد يميزه. كان الذي حدث يشبه نفخة مارد جبار غاضب على الدنيا.
حين تسأل الناس عن لون ذلك الغبار الذي غطاهم وغطى مخيمهم يقول لك البعض أنه لون
أحمر، والبعض يقول لون أصفر والبعض يقول أنه خليط من الاثنين. لم يعد الناس يرون
بعضهم بعضا، وكان كل ما يتراء هو أشكال مثل الأشباح المغبرة تتحرك في الساحة في
اتجاهات مختلفة بغير انتظام. جاء الوفد في غمرة الريح، لكن لم يتبينه أحد بسبب
الغبار. اختفى في المباني الطوبية المعدة له، وانتهى الاحتفال والاستقبال. اختفى أيضا
ذلك الحشد الكبير عن الأنظار في الريح.
في
المساء، هدأ الجو كثيرا، تحسنت حالة الطقس، وبدأ الناس يخرجون من الخيام في
اتجاهات متعاكسة. لكن المريب أنك حين تسأل أحدا- حتى لو شارك في حفل استقبال ذلك
الوفد- عن من زار المخيم ذلك اليوم لقال لك :" زارتنا الريح" أو يقول لك
نافخا في كفه" الريح.. لعجاج، أما الوفد فقد أتى ولم يأت." ... ويمضى في
اتجاهه. أما حين ينظر شخص ما إلى بانوراما المخيم فيرى أن الخيام بقيت ثابتة، وأن
أوتادها زادت انغرازا في الأرض، وأن الصفاء عاد لوجوه أولئك الناس، وكل ما حدث أن
بعض الكثبان غيرت مكانها، وأخرى ذهبت ربما إلى صحاري أخرى مجهولة. لم يبق أيضا أي
أثر للوفد ولا لمظاهر الاستقبال.
يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء