نبض التاريخ: الشهيد الحافظ بوجمعة

Resultado de imagen de ‫الحافظ بوجمعة‬‎الحافظ بوجمعة، اسم سمعته أول مرة، وأنا صغير في مدينة العيون قبل دخول الغزو بشهر أو اثنين، وبالضبط في صيف 1975م. كان رجال بوليس أسبانيا يفرقون مظاهرة في حي الزملة وسمعت الناس، خاصة النساء، يهتفون بحياة الحافظ بوجمعة. بعد ليلتين من تلك الحادثة كنت ومجموعة من الأطفال نطل من نافذة “براكة” في حي ” لاحوهم”- لا أعرف هل لازال من يتذكر هذا الاسم الشعبي أم لا-؟، أين كان يقام حفل زفاف بسيط، وسمعت المرأة التي كانت تحي الحفل تغني أغنية تذكر فيها الحافظ بوجمعة، وتذكر تاريخا أظن أنه يوم 19 في شهر سبعة. في الحقيقة لم افهم أي شيء من كل ذلك، لكن الاسم بقى معي مختبئا في ذاكرة الطفل التي كنته وقتها. نسيت الأغنية وكلماتها، لكن لم أنساها في نفس الوقت. فبكل تأكيد إذا سمعت من يرددها قد أتذكرها أو أتذكر انها أغنية مشابهة لها.
حين هربنا من القصف وأصبحنا لاجئين ودخلنا المدرسة- في الحقيقة هي ليست مدرسة إنما غار في الرابوني- أخبرنا المعلم الذي استقبلنا، أيام فقط قبل إعلان الجمهورية سنة 1976م، إن المكان الذي نتواجد فيه آنذاك اسمه مخيم الشهيد الحافظ بوجمعة. للمرة الثانية بعد تلك الأغنية في حي “لاحوهم”، وبعد المظاهرات اسمع اسم الشهيد الحافظ بوجمعة.  كان ذلك المخيم عبارة عن فوضى في ذلك الخلاء الواسع، وكان يكبر مع مطلع كل يوم كلما جاء لاجئون جدد.
حين أصبحنا لاجئين، تم استدعاءنا ذات يوم لحضور اجتماع في مخيم السبطي رقم 1، أيام قليلة بعد استشهاد الولي، وكان الرجل الذي يدير الاجتماع يحمل مظروفا اصفرا كبيرا مكتوبا عليه عنوان يحمل اسم الشهيد الحافظ بوجمعة. الرجل الذي كان يحمل المظروف ليس سوى المناضل احمد مولاي اعلي( بازوكا) الذي سيتقلد، فيما بعد، مسئوليات عدة في الجبهة، ويصبح سفيرا لبلادنا في إحدى دول أمريكا الجنوبية.
الحافظ استشهد في السجن تحت التعذيب
الشهيد الحافظ اليوم هو اسم فقط على الورق بعد أن انتزع منه اسم بئر الرابوني اسمه شعبيا. في كل الأوراق الرسمية والمنشورات والبيانات توجد كلمات:” حُرر بالحافظ بوجمعة”. حين تبحث في غوغل عن صور للشهيد الحافظ يظهر لك فقط صور الخراب في الرابوني من سيارات محطمة وبنايات آئلة للسقوط وفوضى جغرافية كبيرة، أما صوره هو الشخصية فمعدومة. والأطمُ والأمَرُّ على الذاكرة الجماعية للصحراويين هو أنك لو سألت أي شخص اليوم، خاصة من الشباب، عن من هو الشهيد الحافظ، قد يقول لك انه لا يعرفه، أو يقول لك انه شهيد استشهد في الحرب وأنه واحد من شهدائنا الكُثر. حين تسأل اليوم أي واحد إلى أين أنت ذاهب، يقول لك “أنا ذاهب للرابوني”، ولا يقول لك أنا ذاهب للشهيد الحافظ. شعبيا الأسم تم القضاء عليه، وحتى الشخص (الشهيد الحافظ) لا يعرفه احد الآن من الشباب وقلة من يتذكرونه من الكبار. حين كنت أكتب هذه الأسطر عنه، سألت بعض الشبان ممن ازدادوا بعد سنة 1990م عنه، فقال لي البعض أنه استشهد في المعركة، والبعض قال لي أنه استشهد في قصف ام دريكة، والبعض، وهم الأكثرية، لا يعرفون أي شيء عنه. وحتى الكبار لا يعرفون عنه أي شيء، وقلة هم الذين قالوا لي أنه استشهد تحت التعذيب.
الشهيد الحافظ ابن مدينة العيون، درس في المغرب لبعض الوقت بمساعدة أخته، ثم حين أكمل ما استطاع من التحصيل عاد إلى العيون في بداية السبعينات يبحث عن العمل، لكن لم يجده. بدأ يتعلم الأسبانية، وفي نفس الوقت بدأ يصطدم سياسيا وميدانيا مع أسبانيا، وكان يتهمها أنها تتعمد تفقير الصحراويين وتسرق ثرواتهم حتى يبقون تحت سلطتها. بدأ العمل في شركة كوبيرتا للطرق التي كانت تعبد الطريق بين الدورة والعيون، ثم حين تفطن لما تقوم به الإدارة الأسبانية من حيف ضد الصحراويين ترك العمل بعد أن تشاجر مع مسئولي الشركة. دخل إلى الجيش الأسباني، لكن تمت إحالته إلى قسم الشرطة. العمل في الشرطة لم يرقه، وسرعان ما تصادم مع الإدارة الأسبانية مجددا ورمى بذلة الشرطي ومسدسه وتفرغ للعمل الحر. كان قاسيا مع الأسبان، وكان يضربهم كلما شاهد أحدهم يحتقر الصحراويين أو يهينهم. وضعت الإدارة الأسبانية بمختلف أجهزتها دائرة حمراء حول أسمه، أصبحت تكرهه وتراقبه وتتحرى عنه. حين بدأ الحراك النضالي في مدينة العيون في بداية سنة 1973م، أنضم إليه هو سريا على يد الشهيد المحفوظ علي بيبا. في هذه الفترة كان يستأجر سيارات أصحابه ويحمل مراسلات الجبهة سريا بين مختلف مناطق العيون وما جاورها. كل تحركاته كانت متابعة، وكان البوليس الأسباني يترصده عن قرب ويسجل ابسط حركاته. في مرحلة لاحقة أصبح يعمل سائق سيارة أجرة، لكن في الحقيقة كان كل ذلك عملا تمويهيا فقط، لإن السيارة التي كان يعمل عليها كانت هي سيارة المراسلة السرية بين المناضلين. في بعض الأحيان، وتحت غطاء نقل الركاب، كان يذهب إلى نواذيبو، لكن ليس للعمل إنما ليعود بالمراسلة بين الفروع. في الكثير من المرات كانت الشرطة الأسبانية تقيم له الكمائن، لكن كان ينجو منها بفطنة حادة. حين يلتقي معه أفراد الشرطة كانوا يفتشونه دائما، وكان يتشاجر معهم بالأيدي ويتعارك معهم. حين بدأت المظاهرات المناهضة لأسبانيا تُلهب الشارع لصحراوي في العيون كان هو من منظميها ومن المشرفين عليها ومن الذين يقفون في صفوفها الأولى ملوحا بعلم الجبهة أمام أعين شرطة أسبانيا. كانت الشرطة الأسبانية تعتبره من قادة الجبهة السريين والخطيرين في العيون، لكنها لم تستطيع أن تحصل على أي دليل دامغ تعتقله بموجبه. كان بارعا في التخفي وفي خداع الكمائن الأسبانية وله قدرة فائقة على تنظيم الناس في الشارع.
في احد الأيام بعد أن شارك في مظاهرة كبيرة في العيون تطالب أسبانيا بالخروج من الصحراء، حدث انفجار في الليل أدى بحياة أطفال عائلة أحمد ولد البشير، وحدث انفجار آخر قرب سيارة للبوليس الأسباني. الانفجار سببه قنبلة زرعتها المخابرات المغربية ووضعت بجانبها أعلام جبهة البوليساريو لتوهم أسبانيا والصحراويين أن هذه الحركة هي حركة إرهابية تقتل الأبرياء. شنت أسبانيا حملة دهم واسعة في العيون اعتقلت على أثرها الكثير من المناضلين الصحراويين. حملة الدهم والأعتقالات تلك كانت بهدف اعتقال الحافظ بوجمعة، فهو الوحيد، في العيون كلها، حسب مخابرات أسبانيا، الذي يستطيع أن يتجرأ ويزرع قنبلة تحت سيارة بوليس أسباني. قاد أحد الخونة البوليس الأسباني إلى الشهيد الحافظ.. من بين كل الذين أُعتقلوا، احتفظت الشرطة به هو وحده. أتضح أن أسبانيا كانت تريد رأسه هو فقط، وأن اعتقالها للآخرين كان بهدف التغطية. تم حمله إلى السجن في العيون، وهناك تم تجريب عليه كل وسائل التعذيب التي تشتهر أسبانيا بممارستها. لم يبق نوع من التعذيب إلا وتم استعماله ضده. خرجت العيون كلها تندد بأعتقال ابنها البطل. جابت المظاهرات شوارع العيون تتوعد أسبانيا بالعقاب، وتجمعت أمام السجن والمستشفى. ورغم حالته الصحية المتدهورة إلا انه طلب من البوليس أن يطل على الجماهير من شرفة السجن. كان في حالة سئية، ورغم ذلك قال للناس الذين كان بعضهم يبكي، خاصة النساء:” لماذا تبكون، هناك الكثير معي في السجن. أنا بخير.” كان يريد تلطيف الأجواء ومسح تلك الدموع التي سالت عليه، لكنه في الحقيقة كان يقترب من لحظة الاستشهاد. كان فقط يرفض أن يظهر في موقف ضعف أمام كل تلك الجماهير التي كانت تحتاجه قائدا لها وأحبته لذلك. لم يكن يريد أن يظهر أمام الذين عرفوه بطلا وهو في حالة ضعف جسدي وأنهيار. كان التعذيب يتواصل بقسوة يوميا لمدة 24 ساعة، دون نوم ولا أكل ولا راحة لمدة أسبوع تقريبا. أحد الذين عرفوه قال أن ما فعلوه ضده من تعذيب وصب للحامض على جسده لا يمكن حكيه ولا وصفه. نتفوا شعره وكسروا فكيه، وأضلاعه وبعض عظامه. بعد أيام من الصمود استشهد دون أن تحصل الشرطة على ما كنت تريده منه. استشهد ذات سبت حزين بتاريخ 19 جويلية 1975م، وحين علمت مدينة العيون باستشهاده خرجت كلها في مظاهرات حاشدة تتوعد أسبانيا بالطوفان. كانت تلك المظاهرات تعبيرا عن الصدمة بوفاة أحد قادة المدينة الأبطال الذين قضوا تحت التعذيب. تم دفنه في جنازة تليق به في مقبرة كانت تسمى قديما مقبرة كاتالونيا في الجهة الغربية الجنوبية للمدينة لمدينة العيون.
حين كنت ابحث عن من يعرفون الحافظ وتاريخه، عثرت في أرشيف وزارة الإعلام على شريط مصور فيه تلك الأغنية التي كنت سمعتها في حي لاحوهم بالعيون سنة 1975م، هي أو أغنية مثلها تخلد ذلك الشهيد البطل:
تاريخ امنادم ما ننساه    مستشهد سابق يوم الأحد
وامنين استشهد وازﯕـلناه    صبحت ترتد في كل بلد
الحافظ كيف اللي ما مات    يالرفاق ويالرفيقات
يالرجال ويا لعليات       به اللي جاهد واستشهد
ياربي يالواحد في الذات     عدل لو في الجنة مجبد
في اليوم الثالث لاستشهاده، أي يوم 21 جويلية 1975م، أقام الولي رحمه الله مهرجانا تضامينا تأبينياً له في الرابوني وأطلق اسمه على المكان، ومنذ ذلك الحين أصبح يسمى مركز\ مخيم الشهيد الحافظ بوجمعة، وتمت تسمية أول فرقة فنية غنت باسم الجبهة بأسمه أيضا.
استشهد الحافظ بوجمعة وبدأ النسيان المقيت يحاول أن يلفه مثل رمل غيري مريء. منذ مدة قليلة تم ضمه لقائمة الشهداء بمرسوم رئاسي، وتحول المكان الذي يحمل أسمه إلى ولاية  تحمل أسمه أيضا، لكن مع ذلك لازال الشباب لم يعرفه بما فيه الكفاية ولم يسمع عنه، وحتى صوره غير موجودة ونادرة. الصورة الوحيدة التي رآها الناس له في اللجوء هي صورة كانت معلقة في مديرية الإمداد حسب ما أفادني بذلك احد أصدقائه.

يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء