غولة تغنيف


كانت غولة مدرسة 9 يونيو أسطورة من اساطيرنا المخيفة والمُسلية التي رافقتنا في براءتنا الجميلة.  كان هدف اختراعها من طرف المسؤولين هو منع التلاميذ من الهروب من المدرسة، ومنعنا نحن الطلبة من شرب الشاي في المخيم في فترة الانتظار. لكن للمفارقة، لم تنته قصة الغولة بموتها في السبخة التي تفصل مدرسة 9 يونيو والرابوني او "بذهابها" الى مدرسة 12اكتوبر. استيقظنا ذات يوم في المركز الذي كنا ندرس فيه - تغنيف- على بعض التلاميذ يتحدثون عن الغولة. بسبب صغر عقولنا التي كانت مثل عقول العصافير آنذاك ، صدقنا حكاية تلك الغولة أيضا. كل ما في الامر انه تم تقليد طريقة مدرسة 9 يونيو باختراع غولة جديدة، لكن هذه المرة في تغنيف في الجزائر، وكان الهدف واحد وهو منع التلاميذ من الهروب- التسرطي- الى سوق المدينة- السكافي- أو الى الغابة لشرب الشاي وأكل العنب.
الحديث عن مدينة تغنيف قرب معسكر يقود الى الحديث عن "التغانفة". تغنيف مدينة تاريخية، فيها تم إكتشاف جمجمة انسان تاغنيف الذي عاش قبل التاريخ. جمجمة ذلك الرجل هي فخر تلك المدينة وهي تاريخها، وهي التي تحمل المدينة اسمها. " التغانفة" ليس هم سكان المدينة الجزائريين، لكنه هو الاسم الذي أُطلق علينا نحن الطلبة الصحراويين في تلك المدينة. الانتماء "للتغانفة" كان فخرا كبيرا، وكان وربما، لازال، هو نيشان اعتزاز ينفخنا زهوا وتفوقا. تلك المجموعة الطلابية اكتسبت شهرة وطنية في المخيمات لازال صداها يتردد الى الان.  لكن تلك الشهرة لم يتم الحصول عليها مجانا أو كشيك على بياض. تم الحصول عليها "بكح" الدم والسهر والتدريب والانضباط. كنا نتسابق كي نفوز بورق من اكياس الاسمنت كي نصنع منه كراسا، وكنا نراجع في المراقد والماء يسقط شلالا من السطح، وكاتت توجد " منجارة" واحدة ووممحاة واحدة في القسم، وكان الذي لا يحصل المعدل يبكي دون ان يجد من يواسيه.. كان الثلج والبرد لكن كانت المعنويات، وكان الحديث عن الحرب والشهداء، وكانت الرسائل التي تصل الينا هي وريقة على شكل مثلث بعبق برائحة القرنفل والشاي. كنا نُسيٍّر انفسنا بانفسنا، لاحاجة لنا بمشرف ولا مراقب، وكنا نستيقظ يوم الجمعة- يوم الراحة الوحيد- على الرابعة صباحا كي نتدرب تدريبا عسكريا. كان صديقنا الجزائري ابن شهيد اسمه "الدغية عبد القا"، وسبب صداقته لنا هو اننا حين رفعنا علمنا أول مرة في الساحة، كان هو مارا، وحين ابصر العلم هجم علينا وأراد خفض العلم وهو يقول: "انا ولد شهيد. ينعل والديكم كاع.. حابين تستعمرونا كيما فرنسا" لكن التغانفة احاطوا وبدأوا يشرحون له القضية والعمليات العسكرية ثم اسقوه الشاي في " لبيت"، غرفة المشرفين، ومنذ ذلك اليوم سرت مادة الشايين في عروقه فأصبح مناضلا يدافع عن القضية، وأصبح مدمنا لشرب الشاي، واصبح حبه للشاي أكثر من حبه لأي شيء آخر. كان التغانفة يتسابقون في التحصيل، لكنهم، أيضا، كانوا يتسابقون في تطبيق البرنامج العمل الوطني و حفظه. كان أي صحراوي من التعليم او الشبيبة يزورنا يتم استقباله بالعرض العسكري وبمعرض الصور وبسهرة فنية، وكنا نحن نفوز بعشاء فاخر فيه قطعة من حلوى " ميلفاي". كان يوم الحمام الأسبوعي مقدسا، وكان يوم اجتماع الخلايا الاسبوعي مقدسا أيضا. حين تجتمع الخلايا " البق ما يزغد شيء" مثل ما يقول الجزائريون. لا تسمع للذباب صوتا والصوت الوحيد الذي تسمعه هو صوت حِفظ البرنامج العمل الوطني الذي نحشوا به ادمغتنا بدون فائدة. نحفظ عشرات الصفحات المملؤة ب" العمل على .. العمل على .." وفي الأخير لا يتم العمل على أي شيء ولا باي شيء. . لكن التغانفة لم يكونوا جديين فقط في الدراسة والاتحاد والتنظيم والتسيير، لكن كانوا، أيضا، " قباح". كانت أكثر مشاكلهم هي الهروب- التسرطي- نحو سوق السكافي لشرب "الغازوز" أو نحو " وعدة سيدي مولى عبد القا" أين يأكلون الكسكسي واللحم مع "عيساوة". كانوا، أيضا، يهربون نحو الغابة ليأكلون العنب من الحقول ويشربون الشاي هناك. وحتى يعرف المشرفون من هرب للغابة وأكل العنب او من ذهب الى السوق، كانوا يراقبون صحون وجبة العشاء. من لم يأكل وجبته كاملة فهذا يعني انه كان في الغابة أو في السوق. 
حتى تتم السيطرة عليهم كان لابد من استنساخ غولة مثل غولة 9 يونيو يرهب بها المسؤولون اعداءهم واعداء الله من التغانفة. أصبحت هي حديث العام والخاص. كانت " الغولة" تقوم في الليل بالضرب على النوافذ والأبواب، واحيانا يصبح زجاج نافذة مهشما، فيقول الطلبة الواعيين" مين كسر البلور بالحارة.؟." ويضحكون. كل ليلية تسمع ضربات قوية على الابواب أو على النوافذ، وحين أصبحت تلك الطريقة مملة " انتهجت" "الغولة" أسلوبا اخر أكثر ترويعا. أصبحت تتجول بين المراقد، وكل مرة تصفع شخصا، لكنه لا يتكلم. كل ليلة يتم صفع شخص في غرفة بالتناوب. كان الذين يعتقدون انها ستدخل مرقدهم تلك الليلة يهرعون الى اسرتهم بعد العشاء، ويغلقون الابواب والاضواء ويبقون مستيقيظين ينتظرون، وحين يفتح شخص الباب يصرخون. كان ضحاياها كثيرون وبالاسماء، واتذكر  ان الخافر أيقظ يوما أحد الطلبة فجرا فظن هذا الاخير انها الغولة فسقط من السرير. كان لا بد من نسج حكايات حول المحيط حتى يصدق الطلبة ان الغولة تعيش، فعلا، في مركزهم. تم اختراع قصة تقول أن عجوزا فرنسية كانت تعيش في المدرسة، وماتت تحت شجيرة الليمون التي أمام المخزن، وأن روحها هي الغولة. لم يعد أي أحد يلمس ليمون تلك الشجيرة الذي كانوا يأكلونه قبل ان ينضج. أصبح السي ميلود المقتصد هو الذي يجنيه وهو يضحك من صغر عقولنا. لكن الحقيقة انه لم تكن هناك غولة ولا شيء. فقط كان هناك نسخ قضية غولة 9 يونيو في تغنيف حتى " لانسرطي" ولا نهرب الى الغابة لنشرب الشاي ونأكل العنب.
blog-sahara.blogspot.com.es 
السيد حمدي يحظيه

يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء