سيداتي السلامي: رحيل ذاكرة شعب البيظان


اذا كان رحيل شيخ هو احتراق كتاب من مكتبة، فإن رحيل سيداتي السلامي كان احتراق مكتبة وموسوعة ومتحف  وذاكرة وأرشيف للثقافة الحسانية والعربية. هذا الرجل كان هو أكبر رمز لذاكرة شعب البيظان من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب، وهو أكثر شخص خدم تلك الثقافة الجميلة التي تزحف نحوها رمال النسيان يوما بعد يوم من كل الجهات. لم نعرف شخصا خدم تلك الثقافة واعتز بها أكثر منه، ولم نسمع ان هناك من حاول الوصول الى قامته في هذا الميدان. 
ازداد سيداتي السلامي في فضاء الصحراء الرحب، في منطقة نكجير عام 1941م، واسمه الكامل سيداتي ول السلامي ول لحبيب ول المصطفى ووالدته هي  تفرح منت الشـيخ الولي ولد الشيخ مالعينين. في الثانية من عمره فقد نعمة البصر، لكن أضاء الله صدره وذهنه وعقله بموهبة حادة في الحفظ والإبداع لا يقف أي شيء في طريقها. بدأ حياته في تيريس وحفظ القرآن- رغم انه كفيف- في سن الثانية عشر، في حين لا يحفظه الذين يبصرون الا في الخامسة عشر كأقل تقدير. بعد حفظ كتاب الله، راحت ذاكرته وموهبته الحادة العجيبة تقضم كل ما يأتي في طريقها من علوم ونحو ولغة وشعر وصرف وفقه ولغة اسبانية حتى استوى على ماهو عليه: عالم، فقيه، شاعر، حافظ، مؤرخ، مُلم بكل جوانب الثقافة الحسانية والبيظانية. كان شاعرا بالعربية الفصحى ومغنيا باللهجة الحسانية، وهي موهبة لم تجتمع لشخص إلا نادرا. التحق بإذاعة الصحراء الغربية سنة 1962م بالعيون، وفرض أن يكون فيها أكثر من برنامج عن الدين الإسلامي والثقافة الحسانية والبيظانية. مع موجات تلك الاذاعة وتلك البرامج، بدأت موجاته شهرته هو تتوسع، وبدأ بحره يزخر حتى عم على كل المهتمين بالثقافة الحسانية والبيظانية، فلم يعد هناك من يستطيع مجاراته في الإحاطة بثقافة مجتمعه بمختلف جوانبها. كان شخصية كرزماتية متدفقة مسترسلة لا تتوقف عن الخطابة ولا تتردد، وكان، دائما، متأكدا مما يقول ومقنعا لمن يستمع إليه. اسلوبه في برامجه الثقافية كان جذابا، وكان الناس ينتظرون حصصه ومسلسلاته التي كان يذيع. لا يخفى عليه أي شيء في بحر الثقافة الحسانية، والمَّ بكل تفاصيلها من حكي وأساطير وتاريخ وشعر وثقافة فراح يطوعها ويحسنها ويذيعها حتى اعاد لها الحياة. فتش عن شخصيات الصحراء الغابرة فاستخرجها وبحث عن الحكايات والقصص القديمة فاعادها إلى الركح واحياها، وكلما تقدم الزمن كانت تلك الموهبة التي في ذهنه تزداد اتساعا وشراسة لتضيف الى مخزونها مزيدا من الثقافة الشعبية حتى أصبح النهر بحرا وفاض. 
ورغم طبيعته الهادئة وعاهته الا انه كان مقاوما شرسا وظّف الثقافة الشعبية لخدمة قضيته العظيمة ووطنه حتى أصبح قوة قائمة بذاتها. أصبحت الشرطة تراقبه وتحلل كلامه وتستنجد بمن لهم معرفة بالحسانية لتفسير ما يقول سيداتي في برامجه وخطبه وتجمعاته. في الأخير، حين أصبحت قوته اعتى من قوة الشرطة المغربية، تم إلقاء القبض عليه سنة 1987م وسجنه لمدة أربع سنوات. تم سجن تلك القوة المعنوية الكبيرة التي كان يمثلها سيداتي السلامي وحده فحزن الصحراويون اينما تواجدوا تضامنا معه. احسوا ان ذاكرتهم وتاريخهم الثقافي ثم سجنه، وان ذاك الجانب المعنوي الذي كان يمثله هو جزء مهم من حياتهم. استولت الشرطة على مؤلفاته ومخطوطاته ومكتبته وكل ذاكرته المؤرشفة. باستلاء الشرطة على ارشيف السلامي كانت تستولى على ذاكرة مجتمع وشعب الصحراء كله، وعلى ذاكرة بلد كامل. تم حرق ذلك الأرشيف الذي كان يوازي، من حيث المحتوى، أرشيف امة كاملة. كرس حياته كلها لحفظ ثقافة مجتمعه غير المكتوبة فكان يدون ويكتب وينقح ويحفظ ويذيع في الراديو في محاولة ان تبقى تلك الثقافة علامة تميز شعبه ومجتمعه عن المجتمعات التي تريد ابتلاعه. تحمّل كل الصعاب في حياته من أجل تلك الثقافة الصحراوية  التي سبر اغوارها وفهم مكنونها وعرف مدى تأثيرها كوسيلة مقاومة لا تستطيع أي قوة أن تقف في وجهها. 
برحيل سيداتي السلامي ستحس الثقافة الصحراوية الشعبية الجميلة باليتم وبالظلم وبالاسى، وقد يصبح مصيرها مجهولا ما لم تتطوع شخصيات اخرى مثل سيداتي كي تحمل المشعل الذي تركه.
blog-sahara.blogspot.com.es 
السيد حمدي يحظيه 



يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء