قال لي أحد المقاتلين شارك في ملحمة الوركزيز، بعد أن قرأ الحلقات الماضية:" مهما كتب أحد سوف لن يستطيع أن يأتي على كل ما حدث في الوركزيز. التعبير الوحيد الذي يصف ملحمة الوركزيز بدقة هو انها تحولت إلى مقبرة للغزاة. يوم 9 مارس 1980م، لا تستطيع أن تمر من وادي تيغزرت بسبب روائح القتلى المغاربة الذين تركهم الجيش المغربي في المكان".
دفعُ كتائب أسا للموت
مثلما رأينا فإن فرقة " أحد" والفِرق المساعدة لها تعمدت التأخر لتجعل قوات فرقة " الزلاقة" درعا لها في حالة حدوث هجوم مفاجئ. الدليمي لا يريد قوة " أحد" أن تنقص منها شعرة واحدة، وهو مستعد أن يضحي بالجيش المغربي كله في سبيل بقاء "أحد " متماسكة. بأمر من محمد عبروق، استدعى محجوب الطوبجي قادة فرقته يوم 29 فبراير في الليل، وقال لهم: غدا فجرا الجميع يكون في السيارات. عند الفجر كان العقيد إدريس يوقظ الجنود بالضرب والصراخ ويطلب منهم أن يصعدوا سياراتهم. بعد ساعة كانوا، كلهم، فوق السيارات متجهين نحو المجهول. كانوا موزعين على مجموعات صغيرة، وكل مجموعة تتكون من 53 شخصا تحت إشراف ضابط. كانت المسافة التي تفصلهم عن مكان اللقاء هي حوالي 79 كلم.
ما أن بدأت النيران تصل إلى قوة الزلاقة حتى تقهقرت وتفرقت بغير نظام مما سهل عملية اصطيادها. حين ألهبتهم نيران الرشاشات 23 ملم والهاونات ارتبكوا، وبدأ الجنود يهربون ويختفون في الجبال. تم الاستنجاد بقوة الطوبجي كي تفك الحصار عن فرقة الزلاقة. أعطى الطوبجي أمرا لكتائب مجندي اسا أن تتدخل وتتقدم نحو الموت، وأن تصل إلى " نقاب الوركزيز" مهما كان الثمن. الأمر الذي جاء لمحجوب الطوبجي، القائد المساعد لفرقة الزلاقة، من طرف الدليمي، هو أن الوحدة التي تم تجنيدها بالقوة في أسا من سكان المنطقة يجب أن تكون في المقدمة. يقول الطوبجي في كتابه " ضباط صاحب الجلالة":" هذه الكتائب – كتائب اسا-مكونة من عناصر من أصول صحراوية من المنطقة، ووضعتهم على رأس فيلقي ليصلوا إلى نقاب الوركزيز. أعطيت الأمر لمحمد اليوسي، قائد الكتيبة، أن يحتل مرتفع صخري جنوب غرب المكان الذي حُدد لنا."
بلغة التكتيك العسكري، سيكون عناصر تلك الكتيبة المسكينة هم جسر تلك المعركة، وسيتم فتح "خنقة لنقاب" على جثثهم وسيقتلهم "إخوانهم" الصحراويون.
يقول الضابط الأسير محمد اليوسي:" أنا شخصيا اتهم قائدي المباشر محجوب الطوبجي انه هو المتسبب في المجزرة التي حلت بوحداتي-وحدات أسا-. من حوالي 200، نجا 13 جنديا وقعوا في الأسر. أكبر قوتين مغربيتين متحركتين قضت عليهم البوليساريو. لقد فر محجوب الطوبجي وقوته المساعدة وتركنا لمصيرنا. ( )
سير المعركة وتقدم قوات العدو نحو الموت
يوم 1 مارس
يوم أول مارس واصلت قوة الزلاقة بقيادة بن عثمان تقدمها نحو وادي تيغزرت. على خط موازي معها، تقريبا، كانت تسير قوة محجوب الطوبجي متجهة نحو أمات لكحل تتقدمها كتائب أسا والجنوب، لكن كلما تقدموا كانت قوة بن عثمان تتأخر بعض الشيء وتتوقف أما قوة الدعم المدفعي وقوة المدرعات التي يقودها-على التوالي-كل من حسين محاتين واحمد الحرشي فيبدو أنها توقفت. كانت القوتان-قوة الزلاقة وقوة الطوبجي-تتقدمان منفصلتان، لكن كلما تقدمتا كانتا تصدمان بعراقيل الطبيعة الوعرة والصخور والأحراش. حين توغلت الزلاقة في وادي تيغزرت، وبالضبط في منطقة امطي، وانفصلت عن قوتي المدفعية والمدرعات وقوة الطوبجي، التفت الناحية الأولى عليها، وبدأ القصف. عمت حالة من الاضطراب والفوضى في صفوف القوتين، وبدأ الجنود يتفرقون ويحتمون بالآليات. كانت قذائف "الاورغ ستالين" والهاونات تنهال عليهم من كل جانب. ارتبك بن عثمان فطلب تدخل قوة الطوبجي وقوة "أحد"، وتم إعطاء الأمر أن تحتمي القوات بالصخور الكبيرة وتثبت، وألا ترد على مصدر النيران الصحراوية. بعد ثلاث ساعات من الاختباء في الصخور جاء الأمر من محمد عبروق، القائد العام، يأمر تلك القوات بالتقدم، وأن تكون الآليات المدرعة في المقدمة، ويسير الجنود وراءها. يتم التقدم نحو جبال الوركزيز باي ثمن. كانت القوات الصحراوية تراقب الوضع عن كثب وتصب نيرانها على القوة. حين شاهدوا القوة تتقدم نحو جبل الوركزيز تركوها. تَقَدُّمُ القوتين نحو الوركزيز كان هو ما يريده المقاتلون الصحراويون: يريدونهم أن يصلوا إلى السلسلة الجبلية ويقطعون طريق عودتهم ويقضون عليهم هناك. توقف القصف الصحراوي تاركا القوة تتقدم في حالة يرثى لها. كان الضباط يضربون الجنود وكانت الدماء تسيل من أرجل الجنود على الصخور. بدأت مدفعية فرقتي أحمد الحرشي وحسين محاتين تضرب من بعيد لتؤمن الطريق أمام القوة التي تتقدم نحو الموت، لكن في بعض الأحيان كانت القذائف تسقط على رؤوس الجنود. بلغت القوة دفء جبال الوركزيز فوجدت نفسها محاصرة بالجبال بينما كانت الفتحات القليلة مؤصدة بالقذائف الصحراوية. أصبحت قوة الزلاقة بكاملها محاصرة: من الأمام الجبال ومن الخلف القوة الصحراوية التي سيطرت على طريق العودة والهروب. حل الظلام، وبدأ الجنود يختبئون خلف الشاحنات والآليات الامريكية في حالة فوضى وذعر. جاءت الأوامر أن تحتمي القوة بالصخور والاحراش ولا تَشعل النار ولا ترد على نار قذائف القوات الصحراوية التي كانت تتساقط من السماء كالشهب الحاملة للموت. باتت القذائف تتهاطل على المكان، واستطاع الكثير من الجنود استغلال الظلام ورمي سلاحه والهروب نحو الجبال للاختباء. أصبح الضباط والقادة، ومن بينهم الطوبجي، يطلقون النار في الظلام على أي جندي يهرب ويترك سلاحه.
-يوم 2 مارس
يوم 2 مارس، فجرا، بدأ القصف، وبدأ الجنود المحاصرون يرون القوات الصحراوية تتقدم نحوهم على سياراتها الخفيفة موجهة رشاشاتها 23 ملم نحوهم. أصيبت سيارة المواصلات فانقطع الاتصال بين الطوبجي وقيادته، وانفصل عنه بن عثمان. تم استئناف الاتصال فجاء الأمر للطوبجي أن يتقدموا نحو فتحة " نكاب وركزيز" باي ثمن حتى يلتقي بقوتي كل من الحرشي ومحاتين اللتين ستتوجهان نحو نفس النقطة كقوة دعم وحماية. حاذى ما تبقى من القوة مرتفعات جبل الوركزيز المحيطة بوادي تيغزرت متجهين نحو " نقاب الوركزيز" تحت النيران والقصف. كانوا يتحركون نحو الفتحة المذكورة خلف المدرعات، لكن القذائف كانت تسقط عليهم فتحرق أحيانا بعض الآليات ومن بداخلها. لم تعد الآليات الكبيرة تستطيع صعود المرتفعات فتخلّوا عنها وركبوا لاندروفيرات وواصلوا الزحف البطيء المدمر تحت القصف. كان بعضهم يسير حافيا ويختبئ خلف لاندروفيرات التي كانت تحترق من حين لآخر بسبب القذائف. وضع الطوبجي كتائب أسا والجنوب في المقدمة، وتدخل الطيران أول مرة، لكن الكثير من قذائفه كانت تسقط على رؤوس القوة نفسها فأصبح القصف يأتي من الطيران ومن مدفعية المقاتلين الصحراويين. كانوا يتقدمون ويتركون خسائرهم في الطريق. كثُرت الجثث وكثُر الجرحى والسيارات المعطوبة في الوادي، وكان دخان الآليات المحروقة يغطي الجو. كانوا يتقدمون وكل مرة ينقصون، وكانت قوات الجيش الصحراوي تقترب منهم وتدفعهم أكثر نحو الجبال كي تتم محاصرتهم في نقطة ضيقة. توزعوا على فرقتين كل فرقة ستصعد من مرتفع معين، لكن تمت محاصرتهم ومن لم يصعد بقي في الآليات لا يعرف هل يتقدم أم يتأخر. الجبال أمامهم والقصف وراءهم. الذين صعدوا إلى المرتفعات، خاصة من كتائب ما يسمونه هم الجنوب تمت محاصرتهم في المرتفعات يوم 3مارس.
يوم 4 مارس كان يوم توقف للمعركة من طرف قوات جيش التحرير الشعبي الصحراوي مع الإبقاء على وضعية محاصرة القوة التي أحتمت بالجبال. كانت قوات المدفعية والآليات المغربية ترمي من بعيد، ومن خلف الجبال لكن قذائفها كانت تسقط على الصخور. على طول اليوم وهم يرمون على الصخور وفي الهواء دون نتيجة. لم يتم نجدة لا الجرحى ولا القتلى ولا المحاصرين.
يوم 5 مارس بدأ اصطياد الذين صعدوا إلى الجبل. تسللت وحدات من جيش التحرير الشعبي الصحراوي وحاصرتهم في المرتفعات وبدأ قنصهم وأسرهم. البعض منهم سقط من الصخور ومات في الاسفل. تم القضاء عليهم إما عن طريق الأسر أو القتل.
يوم 6 مارس
حاولت القوة المغربية تنظيم نفسها لمحاولة إخراج قوة الزلاقة من المآزق. تقدمت قوتا الحرشي ومحاتين بالتوازي نحو القوة المحاصرة غير بعيد عن فتحة " نكاب الوركزيز". من جهة أخرى أعطيت الأوامر أن يخرج الفيلق الثالث من الزاك ويفك الحصار عنه، ويحاول، بكل الوسائل، أن يصل إلى المحاصرين. كان ذلك الفيلق في وضعية يرثى لها، فهو محاصر منذ ثلاثة أشهر والإمدادات مقطوعة عنه، ومنذ حوالي شهر لا يصله أي إمداد إلا عن طريق الجو. تشكل الفيلق وحاول الخروج ليفتح الطريق ويفصل بين قوة جيش التحرير الشعبي والقوة المحاصرة. تقدمت وحداته من طريق القرية الشمالية، لكن الناحية الخامسة التي كانت تحاصره تصدت له. تقدم عدة كيلومترات، لكن القذائف ردته على أعقابه. تراجع الفيلق بعد ساعات من القصف من كل الجهات. على ما يبدو فإن عناصر الفيلق الثالث تفطنوا أنه يمكن أن ينتهي ما عندهم من ذخيرة فيتم القبض عليهم. حسب الأسرى المغاربة ( ) فإن الفيلق الثالث تمرد على الأوامر وعاد إلى ثكناته في صخور الزاك عكس أوامر قيادته التي كانت تطلب منه أن يتقدم.
كانت محاولة الفيلق الثالث هي أخر محاولة يائسة لنجدة قوة الزلاقة. اقتربت منها قوات نواحي جيش التحرير أكثر فبدأ غنم الآليات وأسر الجنود. تم القضاء عليها بنسبة 85 بالمئة. أستطاع الطوبجي وبن عثمان بمساعدة الآليات الخروج من الطوق والفرار رفقة مجموعات قليلة. كارثة حقيقية حلت بتلك القوة فتم القضاء عليها. حوالي ثلاثة آلاف جندي بعتادهم تم تدميرهم بصفة نهائية ولم ينجو إلا الذين تسلقوا الجبال وهربوا على أرجلهم نحو قوات المدفعية والآليات التي كانت مرابطة حوالي 7 كلم من مكان المجزرة.
يوم 7 مارس
انضم الفارون من قوة الزلاقة وقوة الدعم التي يقودها الطوبجي بقوات محاتين والحرشي المدرعة، وتم تنظيم القوة من جديد. خرجت يوم 7 على فوجين: فوج يتجه نحو امات لكحل يقوده الطوبجي، وفوج يتجه نحو الركيز يقوده بن عثمان. تم التحام المدرعات والمشاة والمدفعية وبدأ التقدم. حوالي منتصف النهار اشتبكت القوات الصحراوية معهم. تكلفت الناحية الأولى والثالثة بالقوة التي اتجهت نحو أمات لكحل، بينما تكلفت الناحية الثانية والخامسة بالقوة التي توجهت نحو الركيز. بعد قتال عنيف وتبادل كثيف للقصف عادت تلك القوة.
إن قوة قادمة مجهزة بكل وسائل الموت والانتقام وتريد تمشيط منطقة الوركزيز بكل وسائل الدمار لا تنتظر، بكل تأكيد، أن يتم استقبالها بالورود والحلوى. كان وادي تيغزرت الذي ينبع من الوركزيز ويصب اتجاه خنكة "لنقاب" على موعد ذلك اليوم مع حفلة للدمار البشري ولإمكانياتي، وحفلة للقتل لم يعرفها من قبل. اسم تيغزرت هو صنهاجي، وتتم كتابته " تيكزرت" أو " تيقزرت" ويعني بالامازيغية " الجزيرة. في الوركزيز، الوادي المذكور هو، فعلا، جزيرة لأنه محاط بجبال الوركزيز من كل الجوانب.
في وادي تيغزرت كانت كل أنواع السلاح يقتل: رشاشات 23ملم، الهاونات، 12،7ملم، الكلاش، كما كانت " أورج ستالين" تقتل. القوة تمت محاصرتها من جميع الجهات، وتم دفعها أكثر نحو الجبال لتضييق الخناق عليها. يعني أنها إذا وصلت إلى الجبال سوف لن تعود منها آلية واحدة إلى الخلف، وسيتم الاستلاء عليها كلها. لن تستطيع الآليات صعود الجبال وسيتم غنمها أو تدميرها، أما الجنود فلن يكون مصيرهم أحسن من مصير الآليات: الموت أو الأسر أو السقوط من فوق الجبال إلى الهاوية. أربك عامل المفاجأة تلك القوة الكبيرة فتشتت، ولم تعرف قيادتها كيف تتصرف. كانت تظن أن فك حصار الزاك هو مجرد نزهة فوقعت في الفخ .يتبع
blog-sahara.blogspot.com.es
السيد حمدي يحظيه
يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء