المناضلة اغيلة لحويمد: يوم حزن كبير في دائرة حوزة

 



كانت دائرة حوزة ولاية السمارة دائرة رائعة، وظلت كذلك، وربما لازالت إلى الآن. لكن روعة وتألق تلك الدائرة لم يكن بسبب إسمها ولا موقعها، لكن روعتها كانت تستمدها من سكانها، ومن ركائزها البشرية الممتازة التي عرفناها فيها. كانت اغيلة منت لحويمد واحدة من تلك الركائز القوية التي وقفت في وجه الريح، الحر، الصعوبات، وفساد المسؤولين ليظل الصمود واقعا قائما، وتكون دائرة حوزة، كنموذج لكل دائرة من دوائرنا في اللجوء، في القمة التي عرفناها فيها. نعم، كانت اغيلة منت لحويمد ركيزة من ركائز دائرة حوزة القوية التي حافظت على تلك الدائرة الرائعة لتبقى واقفة في اللجوء رغم كل الظروف. 

**

جسّدت اغيلة، رفقة ما كنا نسميه في زمن معين، نخبة العريفات ورئيسات اللجان، رمزا وطنيا للصمود والتفاني في اللجوء. كانت اغيلة  واقفة دائما أمام مقر إدارة حوزة، في أي وقت، تحت أي ظرف، بل كانت، أكثر من ذلك، تأتي بعائلتها كاملة ليشارك الجميع في الحملات، في الأعمال التطوعية، في أعمال اللجان، في اجتماعات الخلايا وفي المهرجانات. أتذكر ذلك اليوم، رغم أنه أبتعد كثيرا في ذاكرة الزمن. لا أستطيع ان أنساه. قد أكون نسيت التاريخ بالضبط، لكن الصورة بقيت عالقة في الذاكرة التي تعرضت للكثير من التخريب والدمار. على أية حال، كان صيفا ساخنا، وكنت مسؤولا للطلبة في دائرة حوزة. قد يكون صيف 1983م بالضبط، وكان يجب أن أحضر الأول باكرا لأسجل الطلبة في البرنامج الصيفي. حين وصلت الى الإدارة بعد صلاة الفجر بقليل، دقت تلك المرأة، بحماس وفرح، الجرس الحديدي المعلق عند مدخل الإدارة، وكان معها ولدها مبارك، وابنتها النكية. دقات ذلك الجرس أو "موسيقاه"، بقيت محفورة في ذاكرتي الى اليوم ليس لأنها صوت فقط لكن كصورة أو كمعادل فني لانضباط تلك المرأة.. دخلت الى الإدارة فاقتحمت علي تلك المرآة المكتب لتقول لي: سجل ولدي وابنتي، ومن اليوم إذا تغيبا عن البرنامج الصيفي، يجب أن تخبرني. 

شيء عجيب حقا حدث ذلك اليوم لا أستطيع أن أنساه مثلما لا أستطيع أن أنسى دقات ذلك الجرس في تلك الساعة بالضبط وليس التي قبلها ولا التي بعدها. حين كانت النساء تبحثن عن حجج حتى لا يشارك أبناءهن في البرنامج الصيفي القاسي، جاءت اغيلة، قبل الوقت المحدد، لتسلم ابناءها " للتنظيم" وتقول تلك العبارة القادمة من عالم آخر: إذا تأخر أو تغيب أي منهما أخبرني. 

بدأت تلك الرحلة الطويلة التي يبدو انها بدأت قبل ذلك بسنوات. رحلة مع التاريخ الشفهي غير المكتوب، والذي ستأتي عليه رياح النسيان. صورة لا يمكن نسيانها ولا تجاهلها: اغيلة حاضرة أمام الإدارة قبل الجميع، في الصيف، في الشتاء، وقت الاجتماع، وقت المحاضرة، وقت الريح. خلال سنوات برنامج الصيف- حوالي أربع سنوات التي كنت حاضرا فيها هناك- كانت اغيلة تقف معنا يوميا، ترافقنا، تعد الماء للشرب، تعد الاستقبال، تساعد في كل شيء حتى لو لم يكن مم اختصاصها ولا علاقة لها به من قريب ولا من بعيد ما عدا علاقة النضال وحب العمل. كانت تأتي الأولى وتنصرف الأخيرة، وكانت تحرجنا بتواجدها وبإصرارها على التواجد في مكان العمل الى نهايته. " قلبها حار"، هكذا كانوا يصفونها حين نطلب منها أن تستريح. كانت تحس أن كل شيء في تلك الدائرة هو تحت إشرافها، وأنها إذا لم تحضر هي سيحدث هناك خلل، أو زلزال أو ستنقلب الدنيا رأسا على عقب أو سيرحل المخيم من مكانه. كانت هي العريفة، هي رئيسة اللجنة، هي العاملة، هي المربية، وهي الطبيبة التقليدية، وباختصار، هي كل شيء. كانت تقف في منتصف الفوضى، في منتصف الريح والحر في ذلك العالم الذي كان يتبدل أمام عينيها، لكنها بقيت وفية لدورها فيه كمناضلة رائدة فقط. 

سأمر ذات مساء، بعد ذلك بسنوات طويلة- قد تكون عشرين سنة-، بالصدفة، من أمام إدارة حوزة. قبل مروري سمعت البوق يدعو الناس إلى الحضور إلى المهرجان. لم يعد ذلك الجرس الحديدي في مكانه؛ حل محله البوق، وحل الصوت محل رنين ضربات ذلك الحجر على عجلة الشاحنة الكبيرة المغنومة من المعركة. بالصدفة، رأيت اغيلة تقف في نفس المكان الذي كانت تقف فيه دائما من  قبل حين كنت أنا شابا في ذلك المخيم. جاءت هي الأولى، كالعادة، إلى مكان الاجتماع مثلما كانت تفعل في الزمن القديم، كأنما قطعت عهدا مع شعبها ومبادئها العظيمة، ورفضت أن تخونها أو تتراجع عنها. كانت تحمل علما عريضا في انتظار أن يحضر الناس. الآن قد يضرب أحد ما جرس الإدارة ليسمع ضمير حوزة رنينا حزينا يصدر من ذلك الجرس الحديدي وليس صوتا من البوق.؛ رنين ليس رنين الجرس الفرِح الذي سمعته أنا في يوم صيفي من سنة 1982م. ستنكس حوزة الاعلام وسيكون رنين الجرس حزينا. سيحل صمت رهيب على حوزة قد لا تتخلص منه بسرعة بعد رحيل اغيلة لحويمد. 

**

الحلقة القادمة: حبيب لحويمد، مقاتل، أسير من مجموعة ال66


blog-sahara.blogspot.com.es 

السيد حمدي يحظيه 


يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء