دائرة حوزة الرائعة: ذكريات برنامج صيف(الحلقة الأولى)

 


كانت دائرة حوزة- لازالت وربما ستظل-، دائرة رائعة وحاضرة في الذاكرة وفي ضمير اللجوء والمخيمات. لازالت تلك الدائرة المميزة تنادي ابناءها، إلى اليوم، بذلك الاسم الجامع: اولاد حوزة. اسم قديم، نحته سكان تلك الدائرة الرائعة بالعَرق على جباه شبابهم منذ سنة 1983م على ما أذكر، ولا زال ساري المفعول لم يبليه الزمن ولم تنته صلاحيته إلى اليوم. كان لي شرف إنني كنت مسؤول الشباب في تلك الدائرة في سنوات ألقها وتوهجها؛ سنوات وحدتها وروعتها، وسنوات ذلك الشباب الذي اطلق على نفسه، وأطلق عليه الناس اسم الجيل الذهبي. 

التنافس الذي لا يُنسى

يمكن أن نكون نسينا أشياء كثيرة، لكن، وهذه حقيقة، هناك أشياء لا يمكن نسيانها، وهي فترات الصيف حينما كانت حوزة تقدم أجمل ما لديها، وتعرض أروع صور التلاحم والالتحام والعظمة التي تتميز هي بها وحدها دون باقي الدوائر. كان ذلك التنافس الإيجابي الشرس يطغى على برامج الصيف والمسابقات، وكان شباب تلك الدائرة يعصر جباهه عرقا في أتون نار شهري جويلية وغشت ليستخرج أعظم ما فيه، وأجمل ما عنده من خصال ومواهب وقدرة على التنافس. كانت تلك اللوحة الخالدة التي يرسمها سكان حوزة، وقت المنافسات، نادرة الحدوث في عالمنا هذا، ولا يمكن حتى تمثيلها أو تخيّلها في مشهد سينمائي. كل جماهير تلك الدائرة، بما فيهم مقاتلين في رخصة، تخرج في هبّة واحدة رائعة فتحس وأنت تراقب- من بعيد أو من اعلى- المشهد بأصواته وألوانه وأهازيجه ونبضه أنك تراقب مشهد من خارج الزمن وخارج المخيم. مشهد سريالي من كوكب آخر يختلط فيه الشباب مع السكان حاملين الطبول والرايات، "باطيكهم المجلدات المرشوشات" في أيديهم، وهم يتوجهون هاتفين باسم تلك الدائرة الى الملاعب أو إلى أماكن السهرات والمسابقات لمؤازرة شبابهم. حين تكون هناك مبارة أو حفلة أو سهرة فيها مسابقة يخرج كل السكان، وتتحول دائرة حوزة الى مخيم أشباح، مخيم خاو على عروشه. الكل في المكان المحدد بطبوله وراياته وأهازيجه، خاصة إذا كانت دائرة بئر لحلو الشرسة والمشحونة بروح التنافس هي الطرف المنافس. كتب لي بيبات عالي باختصار يتذكر تلك اللوحة التي ترسمها دائرة حوزة وقت التنافس، خاصة مع بئر لحلو، فقال:" مساء الخير، أخي السيد حمدي.. في يوم حار من أيام صيف سنة 1985م .....كان شباب الدائرة يتحرك وكله حيوية ونشاط صوب ملعب الولاية، الذي كان علي موعد مع سجال في كرة القدم بين دائرتي حوزة  و دائرة  بئر لحلو،  وما أدراك في تلك السنون بصراع دائرتي  حوزة  و دائرة بئر لحلو علي زعامة  ولاية السمارة. كانت بيننا و بينهم حرب" البسوس"  ولكن في إطار الوطن. كنا كلنا " قبليون" وكانت قبيلتنا هي دائرة "حوزة"، وكنا "عنصريون" وكانت عنصريتنا دائرة "حوزة ". كنا "جهويين" و"متعصبون" و"كفرة " بكل شيء إلا بدائرة " حوزة ". لقد كانت هي بداية الوطن و كانت هي نهايته."

ما كتب بيبات هو الصورة الدقيقة لتلك البرامج ولتلك الصورة المشحونة بإيحاءات صادقة. شيء لا يمكن تصوره، ومن وراء عدم القدرة على التصور تطل دائرة حوزة كأنما تنتمي الى عالم آخر مثالي لا يوجد في الأرض. 

ما حدث في صيف سنة 1985م 

كانت دائرة حوزة متكاملة، متجانسة وإذا حاولت قراءة خريطة مواهبها وشبابها المتفوق والمسؤول ستحسدها، وستتعجب كيف حدث ذلك التكامل النادر. تمتلك أحسن الفرق في كرة القدم، كرة الطائرة ذكور وإناث، أحسن فرق فنية، وأحسن مجموعات تكتب البحوث وأحسن رسامين، وأحسن طقم تسيير. دائرة متكاملة، لكن زاد من ترقية مواهبها هي أنها تتربع على قاعدة جماهيرية مستعدة للذهاب إلى النار مع ذلك الشباب كي يفوز في المسابقات.  لائحة طويلة واسماء رائعة تطل من خلف ضباب وغبار كثيف يلف الذاكرة. حاولت أن أذكر بعض الأسماء المميزة والموهبة، لكن المساحة لا تكفي، وإذا ذكرت البعض سأقصر في حق البعض، وبالتالي سيكون من المستحيل   كتابة اسماء كل الرائعين من تلك الدائرة. شباب رائع حقا تقف وراءه جماهير تدفعها امواج من الحماس والتنافس. 

لكن برنامج صيف سنة  1985م وبرنامج صيف 1986م سيبقيان مضيئان في الذاكرة. في صيف سنة 1985م، كنا متأكدين من الفوز، فلا توجد دائرة في ولاية السمارة تمتلك مخزونا من الشباب المتوثب الموهوب، المنظم المتحمس مثل شباب دائرتنا. رغم شراسة واندفاعة دائرة بئر لحلو، ودائرة التفاريتي وامكالة في القطاع الغربي إلا اننا كنا أكثر تنظيما وأكثر قدرة على سحق أية دائرة تقف في وجهنا. لكن في المسابقة الأخيرة- سنة 1985م- لتمثيل الولاية، حدث ما لم يكن في الحسبان. أسبوع قبل المسابقة، بعثت الولاية رسالة إلى كل الدوائر تخبرها فيها بموعد المسابقة وبالمواعيد التي ستزور فيها لجنة التحكيم كل دائرة وبرزنامة التحكيم على الأنشطة. هذه الرسالة لم تصل ابدا الى دائرة حوزة. فقط تفاجأنا ذات يوم بلجنة التحكيم تقف أمام الدائرة للتحكيم على الحضور وقت رفع العلم.. حدث نقاش ساخن مع اللجنة. فتشنا إدارة الشباب وإدارة الدائرة، فتشنا مكتب أمين التوجيه الثوري محمد عبد الوهاب، لكن بدون نتيجة. النتيجة أن الرسالة لم تصل، وفي ذلك اليوم، رغم التزام شبابنا، فقدنا الكثير من النقاط. لو كنا نعلم أن لجنة التحكيم ستصل الينا في يوم ما من ذلك الأسبوع، كانت دائرة حوزة كلها باتت الليل كله في الساحة. في مساء ذلك جاءتنا رسالة مكتوبة بخط يد رديء، تحمل رزنامة المسابقة لكن فيها خطأ فادح. حسب الرسالة التي تم توزيعها على الدوائر، والتي لم تصلنا، في اليوم الذي تُلعب فيه كرة الطائرة بنات وبنين، تجرى مسابقة الجري 200 متر، لكن في الرسالة التي وصلتنا مكتوبة باليد وليس بالألة  الراقنة، يوجد فقط توقيت كرة الطائرة بنات وبنين بينما لا يتم ذِكر سباق الجري. اتذكر انهم طلبوا متسابقا من دائرتنا، لكن صاحبنا كان غائبا لأن الرسالة المتأخرة التي وصلتنا لا يوجد فيها سباق الجري ذلك اليوم. أمام وضعية الارتباك التي اصابتنا، يدفع الحماس ذلك الشاب الأسمر الطويل- اظن اسمه محمود- ونزع " تريته ونعايله" وخاض سباق 200م نيابة عن دائرة حوزة. صورة لا يمكن نسيانها. خاض ذلك الشاب السباق مع شبان يتدربون ومعروفون بالسرعة في الولاية وهو بدون تجربة، ورغم انه لم يفوز إلا نال تقديرنا وتصفيقاتنا لانه رمز، حقيقة، لروح حب المنافسة التي تتمتع بها دائرة حوزة. خسرنا تلك المسابقة التي كنا سنفوز بها بسهولة لو وصلتنا تلك الرسالة الملعونة في الوقت. حصلنا على المرتبة الثانية وكان الفارق هو 17 نقطة فقط. لم تؤمن تلك الدائرة اننا خسرنا تلك المسابقة، ولم يوجه لنا أي لوم، وظلت الدائرة مقتنعة انها هي الفائزة فعلا.

الغريب أنه في مسابقة ما بين الولايات سنة 1985م، فازت ولاية السمارة بسهولة، وكان فريقها لكرة القدم يضم خمسة عناصر من فريق دائرة حوزة، وفريق بنات كرة الطائرة نصفه من دائرة حوزة، وكانت البحوث التي شاركت بها ولاية السمارة هي بحوث دائرة حوزة، والمواد الفنية هي لِفِرق دائرة حوزة، والمعرض نصفه لدائرة حوزة. بعد أن تخلصنا، مع مرور الزمن، من براءة تلك الأيام الرائعة، بدأنا نفكر بلغة اليوم، ونتساءل هل كانت هناك يد خفية في لجنة التحكيم ناورت كي لا تصل تلك الرسالة الى دائرة حوزة في الوقت كي لا تفوز؟ هل كان عدم ادراج مادة السباق في الرسالة الثانية مناورة أخرى. الآن، أظن أن شكوكنا كانت في محلها والله اعلم. 

الحلقة القادمة: دائرة حوزة الرائعة: الثأر في مسابقة سنة 1986م 

blog-sahara.blogspot.com.es

السيد حمدي يحظيه     


يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء