دورية ثانية لقصف نواقشوط

 


الدورية الأولى التي ذهبت للهجوم على القصر الرئاسي في نواقشوط، انتظرت حتى الثامنة صباحا لتلتحق بها دورية ثانية، لكن ذلك لم يحدث فنفّذت هجومها وانسحبت. مثلما كتبنا سابقا، اصطدمت تلك الدورية مع قوة موريتانية وناورت، ثم انسحبت دون أن تمر على بقية القوة التي يقودها الولي، وتوجد بها إدارة المعركة في كرارة ام التونسي. على الساعة الحادية عشر صباحا، طلب الولي فصيلة المدفعية. 

كانوا خمسة وعشرون مقاتلا يتوزعون على أربع سيارات، واحدة لرشاش دوشكا، وواحدة لقائد الكتيبة الحاج بداتي ومعه الدليل(امنير) عبد الله ولد براهيم، ومعه سيدي بومدين ورامي بازوكا، أما السيارتين المتبقيتين فقد حملت كل منهما طقما لهاون 120ملم. بالنسبة لفصيلة الهاونات، توزعت على سيارتين وكانت تتكون من كل منْ: الزين باهية مسؤول فصيلة المدفعية، محمد البشير نافع( بندر)، الدحمي ولد حسينة، فكو لبات صغري، براهيم زويدة، سيدي احمد الشريف، حمة براهيم لكناوي، محمد سلامة الجيد، البشير حمدة، عالي، ويمكن أن يكون محدثنا نسى مقاتلا أو اثنين(1). قاموا بتحضيراتهم بسرعة في سباق مع الزمن والتاريخ. كل سيارة من سيارتيْ أطقم الهاون الاثنتين حملت 30 قذيفة في صناديق صغيرة، وصواريخ ا ر ب ج 7.   

 أقام لهم الولي محاضرة وقال لهم: إذا ضربتم نواقشوط بقذيفة واحدة فقد استعدتم ثمنكم إذا استشهدتم أو أُسرتم، وإذا لم تفعلوا فقد فرطتم في ثمنكم ولم تفرحوا الصحراويات. اذهبوا واقصفوا نواقشوط وحذار من الكمين، حذار من الكمين"(2). اعطاهم سيارته، وأخذ سيارة كورتا صغيرة مغنومة من الجيش المغربي. أضاف الى فصيلة المدفعية طقم دوشكا، طقم بازوكا، وثلاثة شبان مشاة. قال الولي موجها كلامه للحاج بداتي، قائد الكتيبة، الذي كلفه بتلك الدورية: إذا سقطت شعرة من مقاتل من مجموعة المدفعية هذه، ستنقلب الدنيا رأسا على عقب. استودعكم الله وسننتظركم هنا.  خرج له أحد المقاتلين، وقال له: هذا خطأ. حدد لنا ساعة إذا تأخرنا عنها فانطلقوا. يمكن أن نستشهد أو نقع في الأسر.  قال له الولي: سننتظركم الى الساعة الثامنة مساء(3). 

تحركت تلك الدورية متجهة نحو نواقشوط لتنفذ مهمة محددة ودقيقة وهي قصف سفارتي فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. من كان، من العالم كله، يستطيع، في ذلك الزمن، التفكير في قصف سفارتي الولايات المتحدة وفرنسا؟ وحدهم أبطال تلك الدورية كانوا يستطيعون فِعل ذلك في وضح النهار. سارت الدورية مع جانب الطريق المعبد في أرض وعرة متكسرة سطحها مملوء بالشجيرات الصغيرة والكثبان والأحجار، وكانت الحرارة مرتفعة والهواء ساخن، وكان السراب يلمع في الأفق كماء خرافي يسخر من العطشى. لا شيء يقي من الشمس ذلك اليوم في صحراء الجحيم تلك. 

لننتظر الظلام

بعد الهجوم الأول، صباحا، على القصر الرئاسي في نواقشوط، تحركت الحراسات والشرطة والدرك والمتطوعون بسرعة وطوقوا المدينة من كل الجهات. غير بعيد عن العاصمة، توقفت الدورية الصحراوية التي تحمل في سياراتها مقاتلين متأهبين لإطلاق قذائف مدمِّرة، جسورة ستتحدى الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وتدخل التاريخ. كانت الساعة تشير إلى الرابعة مساء. تسألوا فيما بينهم: هل نقصف السفارات الآن ام ننتظر الليل؟ لكن يبدو أن رأي قائد  فصيلة الهاونات، البطل الزين ولد باهية، كان حاسما في ذلك القرار. قال: إذا كان هناك أمر أن نقصف الآن يمكن أن نفعل ذلك، وإذا كنتم تطلبون رأينا ننتظر حتى يحل الظلام ونقصف بسهولة ثم ننسحب تحت جنح الظلام لانه لا يستطيع أحد أن يطاردنا ولن تكشفنا الطائرات(4). لم يكن رأى ذلك البطل مستوحى من فراغ. الدورية التي قصفت نواقشوط في الصباح حققت الهدف السياسي والعسكري من العملية؛ قصفت القصر في واضحة النهار ليتأكد الجميع أن البوليساريو قوية وقادرة على احتلال نواقشوط في الضحى. الدورية الثانية يجب أن تنتظر الظلام وتقصف، وتؤكد أن البوليساريو تستطيع أن تهجم في الليل أيضا، وأن لديها أسلحة مختلفة عن الأسلحة التي نفذت بها الهجوم صباحا. كان ذلك القائد يريد تنفيذ هجومه بنجاح ويتفادى الكشف والمطاردة. فتثبيت قواعد هاونات 120ملم، واستخراجها بعد الرماية يتطلب جهدا كبيرا، وإذا قصفوا في النهار، وحاولوا استخراج قواعد الهاونات من الأرض سيجدون صعوبة كبيرة، ويمكن أن تحيط بهم قوة مطاردة وتعتقلهم أو تفرض عليهم ترك الهاونات والهروب عنها. الشيء الآخر المهم، أن نواقشوط قبل الهجوم عليها صباحا ليست هي نواقشوط في المساء. في الوقت الذي وصلت فيه الدورية الثانية- دورية الهاونات-  إلى محيط نواقشوط، كانت الحراسات تحيط بالمدينة من كل جانب وتسورها بقوة. 

وقت المغرب اشتعلت أضواء نواقشوط، وبدأت الأحياء الراقية وأحياء السفارات أكثر إنارة من باقي أحياء المدينة الفقيرة. كان عبد الله براهيم، دليل الدورية، الذي يعرف نواقشوط معرفته لوجهه في المرآة، ينظر الى تلك الاضواء ويقول لرفاقه: الضوء الأول الساطع أكثر من اللازم هو ضوء القصر، والضوء الذي يظهر بعيدا عنه نوعا ما هو ضوء المطار، اما الأضواء الممتدة هناك فهي حي السفارات الأجنبية، وهو الذي سنستهدفه. 

على بعد ستة كلمترات شمال المدينة،  حفروا لقواعد الهاونات جنبا الى جنب. بجانب كل هاون وضعوا 14 قذيفة، ووقف12 مقاتلا بأسلحتهم صامتين. كانوا ينظرون إلى الاضواء وينتظرون أن يتكلم عبدالله ولد براهيم ليحدد لهم المسافة التي يجب أن يضبطوا عليها مدى المدفعين شديدي التدمير، ويحدد لهم الأهداف. يقول راوي أحداث هذه العملية الذي كان شاهدا على انطلاق أول قذيفة نحو سفارة الولايات المتحدة الأمريكية:" طلب منا عبد الله ولد براهيم أن نضبط مدى الرماية على ستة كلومترات، وأكد لنا أنها ستسقط في قلب السفارات المستهدفة بدقة. ضبطنا رمايتنا على وضعية آلي، أي رماية متواصلة بدون انقطاع. يعني ذلك أن كل القذائف ستسقط في نفس الوقت تقريبا."(5) 

كانت نواقشوط هادئة، وكانت النجوم تلمع في ظلمة الليل الرهيبة تراقب تلك الصحراء، تنظر إلى المكان الذي ستنطلق منه القذائف. فجأة هدرت قذائف  المدفعين العملاقين، في نفس الوقت، كشهب من جهنم تشق السماء وتسقط وسط تلك الأضواء التي قال عبد الله أنها اضواء السفارات العالمية. انطلقت ثمانية وعشرون صاروخا، تبعتها ثمانية وعشرون انفجارا هزت نواقشوط في عتمة تلك الليلة التي تحدَّت التاريخ من يوم 8 يونيو 1976م. حوالي ثلاث دقائق كانت كافية لتهز نواقشوط، وتوقظ حي تلك السفارات الراقية؛ ثلاث دقائق دخل بها أولئك المقاتلون وشعبهم التاريخ. سقطت ثلاث قذائف على السفارة الأمريكية(6) لأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت هي عرّابة اتفاق مدريد. سقطت قذيفة على السفارة المصرية وقذيفة قرب السفارة الإسبانية وتضررت سفارات أخرى، ونجت السفارة الفرنسية أو أصيبت وتكتموا على الأمر. تلك الليلة لم ينم أي دبلوماسي في ذلك الحي الراقي، وبعضهم نام في مقرات الدرك والشرطة. 

كان على منفذي الهجوم أن ينسحبوا بعد أن نفذوا المهمة. مهمة الانسحاب ستكون سهلة وصعبة في نفس الوقت. لو كانت الأرضية التي ثبتوا فيها قواعد الهاونات كانت صلبة، كانت المهمة ستكون أسهل، لكن بسبب ليونة الأرض انغرزت قواعد الهاونات أكثر، وحين حاولوا استخراجها، بعد القصف، لم يستطيعوا. حاول كل طقم أن يستخرج قاعدة الهاون الذي كان يرمي به، لكن فشلوا. غاصت في الأرض، وحاول الرجال انتشالها من جديد، لكن عجزوا. عندها انبرى الحاج بداتي قائد الدورية ليواجه الوضع. تولدت قوة  خارقة في جسمه فانحنى على القاعدة الأولى واستخرجها، ثم فعل نفس الشيء مع القاعدة الثانية. حدث كل ذلك أمام حيرة أولئك الرجال الذين اكتفوا بالإعجاب والتصفيق لذلك البطل. انسحبوا بدون مشاكل حتى وصلوا الى منطقة اوشيش وبوطلحة. التقوا مع الدورية الاولى التي قصفت نواقشوط قبلهم.

--

-المراجع:

(1) (2)، (3)، (4)  (5) شهادة محمد البشير نافع الداف(بندر)، تسجيلات تمتلكها عائلته، تسجيلات يوم 20 يونيو 2022م - (6) https://mr.usembassy.gov/ october-11-2017-

blog-sahara.blogspot.com.es

الحلقة القادمة: عملية نواقشوط الثانية

السيد حمدي يحظيه  


يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء