أخطاء فرنسا الجسيمة في عنادها مع الجزائر

  


ارتكبت فرنسا، بسبب مناكفتها للجزائر، وبسبب عدم قراءتها قراءة متأنية للتاريخ، سلسلة من الأخطاء يمكن وصفها بالغبية أو يمكن إطلاق عليها اسم الأخطاء القاتلة التي يمكن أن تؤدي بفرنسا، في النهاية، إلى تحويلها إلى دولة فاشلة. ففرنسا، رغم تصالحها مع الكثير من أخطائها التاريخية في العالم وتراجعها عنها، إلا أن عقدة الجزائر بقيت ترافقها، وبدل أن تكون براغماتية وتعترف بفشلها وتتصالح مع الأمر الواقع الذي تحاول معاكسته، اضافت إلى سلسلة الأخطاء خطأ آخرا هو الاعتراف بالحكم الذاتي كحل لقضية الصحراء الغربية.

في الذهنية الفرنسية المتحجرة الآن، الجزائر هي سبب طرد فرنسا من إفريقيا كدولة استعمارية في الستينات، وهي سبب طردها بعد ذلك منها-إفريقيا- كدولة مهيمنة على الاقتصاد الافريقي. في الواقع، إذا وقفت فرنسا أمام مرآتها الآن، وراجعت نفسها وقرأت التاريخ جيدا، ستكتشف أن سبب طردها هو حماقتها وتهورها وعنادها مع الجزائر، وأنها دائما تحاول تصحيح خطأ بارتكاب خطأ أكبر منه.

سنة 1960م، نتائج الهوس الفرنسي بالجزائر 

الاخطاء التي تتخبط فيها فرنسا اليوم ، في إفريقيا، لم تأت من فراغ أو ناتجة عن ظواهر طبيعة غير مُحكّم فيها. حتى نفهم كيف أصبحت كرة ثلج الأخطاء الفرنسية كبيرة إلى هذا الحد، في إفريقيا، لا بد من وخز ذاكرة التاريخ قليلا. في سنة 1954م، فاجأت الثورة الجزائرية الفرنسيين الذين كانوا يرقصون ويغنون احتفالا بعيد "كل القديسين" الذي يتم تخليده يوم أول نوفمبر، واختلط صوت الرصاص الحي وصوت المفرقعات الاحتفالية في ليلة لن ينساها التاريخ. إلى غاية سنة 1959م ، حاولت فرنسا أن تطفئ نار الثورة الجزائرية ليستأنف الفرنسيون رقصهم وسياحتهم ونهبهم للجزائر، لكن بدون جدوى. تعاظُمُ الثورة الجزائرية فرض على فرنسا أن تختار رئيسا جديدا- ديغول-، تجلب الجنود والسلاح من مستعمراتها في إفريقيا، تستنجد بالخبرة من الحلف الأطلسي، وأن ترتكب أبشع الجرائم للبقاء في الجزائر. لكن رغم ذلك كانت الثورة تزداد قوة، وكان صوت رصاص الانتصارات يدوي في كل مكان. في التفكير الفرنسي آنذاك، كانت قيمة الجزائر تعادل قيمة كل المستعمرات الفرنسية في افريقيا، ثم بعد وقت وجيز انتقل التفكير إلى مرحلة أخرى متقدمة وهي أن الجزائر، بالنسبة لفرنسا، أصبحت أهم من كل مستعمراتها  في إفريقيا، والاحتفاظ بها أصبح هوسا أو قضية حياة أو موت. انتهى التفكير الاستعماري الفرنسي إلى قرار ستدفع ثمنه لاحقا: قررت أن تمنح ستة عشر دولة افريقية استقلالها في يوم واحد  وتجلب جيشها وعتادها من تلك الدول إلى الجزائر لمحاولة القضاء على الثورة والاحتفاظ،  في النهاية، بالجزائر ك"جزء من فرنسا". لنتصور أن فرنسا قلبت العملية: خرجت من الجزائر غداة إعلان الثورة بسرعة واحتفظت بالدول التي اعطتها استقلالها سنة 1960م، والتي ضحّت بعلاقاتها معها في سبيل البقاء في الجزائر. هل كان سيكون حال فرنسا على ما هو عليه من السوء الآن؟ الجواب سيكون ب"لا" بكل تأكيد. بعد سنتين من ذلك القرار ظهر الخطأ: طُردت فرنسا من الجزائر، ولم تستطيع أن تستعيد علاقاتها مع الدول التي اعطتها استقلالها سنة 1960م. 

خطأ فرنسا الفادح سنة 1975م

مثلما يُقال، نسيت فرنسا كل احقادها مع جميع الدول التي كانت لها معها حروب ومناكفات ونزاعات،  ونسيت حرب المائة عام مع بريطانيا، ونسيت حربها مع المانيا، وكانت مستعدة أن تنسى حروبها مع الشيطان لو خاض معها حربا، لكنها غير مستعدة أن تنسى هزيمتنا المذلة في الجزائر. إلى الآن، وربما إلى الأبد، لازالت فرنسا تحس بمرارة تلك الهزيمة التي لم تستطيع أن تهضمها، والتي لم تكن تتصور أن تحدث لها مثلها مع شعب اسمه الشعب الجزائري. في سنة 1975م، حين حشد المغرب الدعم لغزو الصحراء الغربية، وجدت فرنسا نفسها أمام طريق يتفرع إلى طريقين: الأول، هو الطريق الصحيح منطقيا، وهو إنها-فرنسا- بحكم ماضيها الاستعماري في منطقة شمال غرب إفريقيا، وبسبب علاقاتها المتينة مع دول تلك المنطقة، ووجودها في مجلس الأمن، وحتى تخلق علاقات جديدة من تلك المنطقة، كان عليها أن تدافع عن القانون الدولي في قضية الصحراء الغربية وستكسب أكثر مما ستخسر: ستكسب علاقة جيدة مثالية مع ثلاثة دول هي الجزائر، موريتانيا ودولة الصحراء الغربية الفتية، وفي نفس الوقت ستحافظ على علاقة جيدة مع المغرب بحكم فرض الأمر الواقع، كما ستكسب احترام الدول المدافعة عن تقرير المصير في إفريقيا والعالم. كانت آنذاك هي الدولة الوحيدة المؤهلة لتطبيق وفرض القانون في الصحراء الغربية بحكم الضغوط الكبيرة التي تمارسها على المغرب. الطريق الثاني الاعوج، الخارج عن مظلة القانون هو الاعتراف باتفاق مدريد لتقسيم الصحراء الغربية لمحاول الانتقام من الجزائر. 

 بين اختيار السير في الطريق الأول الصحيح والقانوني، والسير في الطريق الثاني الذي عبدته الضغينة والحسابات الخاطئة والضيقة والجشع وحب تصفية الحسابات مع الجزائر، اختارت فرنسا، وهي مغمضة العينين، الطريق الثاني. حسب تفكير فرنسا سنة 1975م، وبما أنها اختارت الطريق الخطأ، ستساعد المغرب وموريتانيا في حربهما على الشعب الصحراوي، وحين يتم القضاء عليه تُصفي حساباتها القديمة مع الجزائر، وربما تعود، ولو بطريقة غير مباشرة، إلى الجزائر أو الجنة المفقودة التي تظهر اضواءها وألوانها البيضاء من مدينة مرسيليا، وستربط الموانئ الفرنسية والاوروبية بإفريقيا عن طريق الجزائر والمغرب.

 الشيء الآخر المهم الذي لم يغب عن تفكير فرنسا حين اختارت دعم المغرب سنة 1975م، هو استراتيجية إِحكام الطوق حول الجزائر، وتضييق الحلقة المحيطة بها بالسيناريو التالي: المغرب الكبير بعد احتلال الصحراء الغربية، موريتانيا، السينغال، مالي والنيجر. 

 الخطا الثاني: الحرب غير المباشرة على الجزائر  

اختيار فرنسا،  بطريقة غير مباشرة، طريق الانتقام من الجزائر وإضعافها، ومحاولة تصفية حساباتها معها ولي ذراعها بواسطة المغرب كوكيل، وتوظيف قضية الصحراء الغربية كشماعة، قادها إلى الهاوية خمسين سنة، تقريبا، بعد ذلك. بما أن الجزائر لأسباب أخلاقية وتاريخية وقفت إلى جانب حق الشعب الفلسطيني وحق الصحراوي في تقرير المصير،  فقد وقفت فرنسا إلى جانب المغرب نكاية بموقف الجزائر ومحاولةً منها لتحقيق مآرب استراتيجية بعيدة المدى.

على مدى حوالي خمسين سنة تكلفت فرنسا،  مستغلة تمتعها بحق النقض/الفيتو، وبنفوذها في الاتحاد الأوروبي، بتصفية القضية الصحراوية في الأمم المتحدة لصالح المغرب لتحقيق مآرب استراتيجية اقتصادية في إفريقيا ولضرب الجزائر في مفصل مهم. بالنسبة لها-فرنسا- لن ينجح لها أي مشروع أو استراتيجية للربط بإفريقيا ما لم تُزاح صخرة الجزائر الصلبة الموجودة في منتصف الطريق والتي لا يمكن القفز عليها. كانت تعمل في كواليس مجلس الأمن والجمعية العامة، تصحح وتنقح القرارات، تزيد وتشطب، تتآمر، تشتري الأصوات، تبتز، تبيع المواقف، وكلما ظهر ضوء في آخر النفق أو اقترب حل معقول وقانوني للقضية الصحراوية تهدد فرنسا برفع الفيتو. خلال هذه المدة الطويلة جعلت فرنسا من قضية الصحراء قضية حياة أو موت بالنسبة لها كوسيلة لإضعاف الجزائر، وكان شعارها: لا يمكن أن تضيع الصحراء الغربية مثلما ضاعت الجزائر. حشدت الدول التابعة لها في إفريقيا لكبح جماح إرادة التحرير، حاولت عزل قضية الصحراء الغربية ومنعها من حاضنتها الإفريقية، حاولت أن تحدثت انقساما في منظمة الوحدة الإفريقية أكثر من مرة، حاولت منع سيل الاعترافات بالجمهورية الصحراوية، منعت الوفود الصحراوية من المشاركة في الكثير من الفعاليات والمؤتمرات. كل هذه المعركة خاضتها فرنسا، ظاهريا، ضد الشعب الصحراوي بالنيابة عن المغرب، لكن، باطنيا، خاضتها ضد الجزائر لمحاولة إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء. 

نتيجة الخطأ الثاني الذي ارتكبته فرنسا سنة 1975م

قلنا، حين تحدثنا عن الخطأ الثاني  الذي ارتكبته فرنسا سنة 1975م بدعمها للمغرب ولاتفاق مدريد ضد الشرعية الدولية في الصحراء الغربية، إنها كانت هي الوحيدة من بين القوى العظمي المؤهلة لحل تلك القضية طبقا للقانون الدولي بخلق تفاهمات بين مختلف الأطراف تكون نتيجتها تقرير مصير الشعب الصحراوي تحت إشراف الأمم المتحدة. بدل أن تفعل فرنسا ذلك ارتكبت الخطأ القاتل الذي تحدثنا عنه، وخاضت معركة شبه مباشرة مع الصحراويين ومعركة غير مباشرة مع الجزائر. في معاركها تلك سال الكثير من الدم من أنفها، وتم التأثير على سمعتها وقوتها، وبدون أن تدري، وبسبب انهماكها وتفرغها لمناكفة الجزائر والصحراء الغربية،  كانت تفقد إفريقيا كحديقة خلفية بصمت، شئيا فشئيا، وكانت حدود هيمنتها تنكمش، وكانت مصالحها تتقلص وكانت قيمتها تنقص على المستوى الدولي. إن الانشغال بقضية الصحراء الغربية للإيقاع بالجزائر استنزف طاقات فرنسا، وأوصلها إلى النقطة التي لا رجعة منها. فلا هي ووكيلها المغرب حسما قضية الصحراء الغربية للتفرغ للجزائر، ولا هي حافظت على علاقتها مع الدول الإفريقية، ولا هي أقامت مشاريعها التي  تنطلق من أوروبا نحو إفريقيا عبر المغرب مرورا بالصحراء الغربية. 

الاعتراف بالحكم الذاتي أو الخطأ الفادح الأخير 

الآن يمكن أن نقف على نتيجة حاسمة وهي أن كل شيء له علاقة بمخطط الحكم الذاتي الذي يحاول المغرب فرضه كحل لقضية الصحراء الغربية بدأ من اللحظة التي استفاقت فيها فرنسا من اوهامها ووجدت نفسها تقف وجها لوجه أمام الحقائق التالية: قضية الصحراء الغربية لم تتم تصفيتها لصالح فرنسا والمغرب؛ فرنسا طُردت من إفريقيا وبالخصوص من منطقة الساحل التي كانت تريدها- فرنسا- أن تكون حزام تخنق به الجزائر؛ خسرت علاقتها مع وكيلها المغرب الذي أصبح يتجسس على رئيسها. بدل أن تصحح الخطأ الذي ارتكبته سنة 1975م، وتتصالح مع الجزائر وتساهم بنشاط في حل قضية الصحراء الغربية طبقا للقانون الدولي، وتعيد التفكير في حساباتها في افريقيا انطلاقا من الجزائر، قررت أن تهرب إلى الأمام أكثر، وتعترف بالحكم الذاتي كحل غير شرعي لقضية الصحراء الغربية. في الواقع، اعتراف فرنسا بالحكم الذاتي لم يفاجئ أحدا، ويمكن وضعه في خانة نوع من الانتحار السياسي. هناك شئين مهمين يجب معرفتهما عن هذه الخطوة المتهورة: الأول، لا فرق بين اعتراف ماكرون في أيام حكومته الأخيرة وبين تغريدة ترامب في آخر أيامه في الرئاسة أو رسالة بيدرو سانتشيز التي كتبها من خلف ظهر الحكومة والبرلمان. لقد أعلنت الحكومة الفرنسية عن اعترافها بالحكم الذاتي فقط حين عرفت إنها منتهية الصلاحية، ومثلما خلق اعتراف ترامب به- الحكم الذاتي- مشاكلا لحكومة بايدن التي جاءت بعده بسبب تغريدته الغبية، سيخلق اعتراف حكومة ماكرون أكثر من المشاكل مع الجزائر للحكومة التي ستأتي بعده. الثاني، أن الصحراويين والجزائريين والافارقة الشرفاء والأمم المتحدة كانوا مقتنعين، منذ البداية، أنه إذا كانت دولة ما ستعترف هي الأولى بالحكم الذاتي فهي فرنسا، ويتعجبون لماذا تأخرت كل هذا الوقت، وبالتالي الاعتراف لن يكون صدمة لأحد اللهم إذا كان سيكون صدمة لفرنسا نفسها مستقبلا.

دعم فرنسا للحكم الذاتي الآن هو تكرار لدعمها سنة 1975م لاتفاق مدريد. في تلك السنة-1975م- كان ثمن وقوف فرنسا مع المغرب هو وعود مغربية بفتح المغرب والصحراء الغربية بعد الاستحواذ عليها وموريتانيا أمام فرنسا لمحاصرة الجزائر وخلق طوق معادي حولها. الآن، أيضا، هناك مقابل رغم تغيير الظروف والمعطيات مثل الضعف الفرنسي ، طرد فرنسا من الساحل الافريقي.  المقابل الآن هو : تعترف فرنسا بالحكم الذاتي مقابل أن يضمها المغرب إلى المبادرة  الأطلسية كمرحلة أولى لإعادتها إلى الساحل الافريقي الذي طُردت منه. بالإضافة إلى هذا المخطط غير المضمون النتائج، لا يمكن التغاضي عن الابتزاز الذي قام به المغرب واليمين الفرنسي لفرنسا لإبعاد باريس عن تطبيع العلاقات مع الجزائر. إذن، الاعتراف بالحكم الذاتي هو إضافة خطأ جديد- فادح هذه المرة- إلى سلسلة الأخطاء التي ارتكبتها فرنسا في تعاملها مع عقدتها في الجزائر. يمكن اعتبار اعتراف فرنسا بالحكم الذاتي الآن كمحاولة تسجيل هدف في الوقت بدل الضائع. فرنسا الآن ليست هي فرنسا القوية سنة 1975م، وليست هي فرنسا المؤثرة في إفريقيا والاتحاد الأوروبي، وليست هي فرنسا التي تفرض آرائها، وهي الدولة الوحيدة من بين الدول التي تمتلك حق الفيتو المؤهلة لفقدان مكانتها وحق الفيتو إذا حدث ابسط تغيير في النظام الدولي الحالي. فرنسا الآن منشغلة بأحشائها الممزقة وبمشاكل اليمين ومشاكل المهاجرين ومشاكل الانطواء على الذات، وبالمقابل تشهد الجزائر إقلاعا اقتصاديا لم يسبق له مثيل: بلا ديون، قرارها سيادي، اكتسبت مناعة داخلية ضد أي مخطط للتخريب، لها جيش من أقوى الجيوش. بالتالي، ارتكاب هذا الخطأ- الاعتراف بالحكم الذاتي-في هذا الوقت لن يكون سحابة صيف عابرة، وستتم مراجعة كل العلاقات الجزائرية الفرنسية التي كانت في طريقها إلى الانفراج، وستوضع فرنسا في خانة الدول التي فُقدت فيها الثقة تاريخيا. 

الذي كان يتوقعه العقلاء الفرنسيون هو أن فرنسا، بما إنها خسرت مغامرة دعم اتفاق مدريد سنة 1975م، كان حري بها أن تكون براغماتية، وبدل أن تكرر نفس الخطأ الآن بدعم الحكم الذاتي، تدعم الحل الشرعي لقضية الصحراء الغربية وهو الاستفتاء.

السيد حمدي يحظيه 


يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء