رجل عظيم زارنا ذات يوم...
راموس أورتا ( (Ramos Hortaهو مناضل من الصعب جدا أن يوجد مثله في النضال، ولا في أية صفة أخرى لها علاقة بخدمة الوطن. هو الآن رئيس الدولة الصديقة تيمور الشرقية، وهي دولة، مثلها مثله- راموس-، وفية، ذاكرتها غير مثقوبة؛ دولة رغم صغرها وبُعدها، لكنها عظيمة بمُثلها وقيمها، وقريبة من القلب رغم بُعدها الجغرافي، وشخصيا اعتبر أن من الشخصيات التي شكّلت شخصية دولة تيمور حاليا هو رئيسها راموس هورتا. هذا الرجل الفذ كان مناضلا وسياسيا قبل الاستقلال، يتكلم أربع لغات، وحائز على جائزة نوبل للسلام سنة 1996م. بين سنوات 2007م و2012م، كان رئيسا لتيمور، وقبل أن يكون رئيسا كان وزيرا للخارجية لبلده، وقبل أن يكون وزيرا هو صديق كبير للصحراويين وقضيتهم. في سنة 2022م، أعيد انتخابه مرة ثانية رئيسا لبلده، وأثناء فترة رئاسته الأولى هاجمته عصابة، وكاد يفقد حياته. حينما رأيت صورة له، وهو بالزي الصحراوي، يستقبل الرئيس الصحراوي اليوم، استعدت، في ذهني، لقاًء لي معه، حينما زارنا في مخيمات العزة والكرامة في سنة 1997م، قبل أن تستقل دولته بسنوات، وقبل أن يصبح رئيسا. كانت مناسبة الزيارة هي دعوة وُجهت له لحضور ندوة دولية حول مخطط السلام في الصحراء الغربية، ونُظمت بالضبط بين أيام 24- 26 نوفمبر 1997م في مدرسة 27 فبراير آنذاك. كان الرجل جالسا لوحده في إحدى الخيم المخصصة لاستراحة الوفود، وكانت ملامحه وبشرته السمراء توحي أنه غريب بين هؤلاء الحاضرين القادمين من أوروبا وأمريكا. حين نظرت إليه اعتقدت أنه ليس من أوروبا، ومع إمعان النظر أكثر اعتقدت أن ملامحه ليست غريبة علي، وأنه قد يكون شخصية مهمة من هذا العالم الواسع ومن هذه الشخصيات التي تظهر في التلفزيون وفي الجرائد. كان يستمع لبعض الأسبان الذين كانوا يتحدثون بالقرب منه دون أن يشاركهم في الحديث. وبسبب الفضول في معرفة من أين هو، اقتربت منه وسألته بإنجليزية ضعيفة عن من أي بلد هو؟. وقف الرجل بأدب جم، وصافحني وهو يقول لي: أنا راموس أورتا من تيمور الشرقية .
تذكرت الاسم والبلد وجائزة نوبل للسلام التي سمعنا في سنة 1996م أن الفائز بها هو راموس اورتا من تيمور الشرقية المحتلة مثلنا.
قلت له: أنت الفائز بجائزة نوبل العام الماضي.؟
يبدو أن الرجل فرح شيئا ما أو تفاجأ، ربما أنه لم يكن يظن إن يجد في مخيمات بعيدة نائية تقع في طرف صحراء أفريقيا الكبرى من يعرف اسمه، ويعرف أنه فاز بجائزة نوبل للسلام، ويعرف تيمور الشرقية التي تقع في طرف العالم الآخر في عمق أكبر محيط . حين تفطن للضعف الفظيع الذي أتكلم به الإنجليزية، قال لي انه يمكنني أن أتكلم معه الفرنسية أو الأسبانية أو البرتغالية. وسألته، بنفس الانجليزية الرديئة، كيف تعرّف على الصحراويين وقضيتهم؟ قال لي أنه يعرف القضية الصحراوية منذ احتلال المغرب للصحراء الغربية، لكن الذي لم أستطيع نسيانه من حديثه عنا ليس قِدم معرفته لحيثيات صراعنا مع المغرب، بل أنه قال لي:" في تيمور يتفرج المقاتلون على أشرطة سينمائية لحرب فتنام والجزائر لمعرفة تقنيات الحرب، لكن أحدث أشرطة عندهم هي من حرب الصحراء الغربية. فالمدربون يقولون للمقاتلين لرفع معنوياتهم: أنظروا إلى هؤلاء؛ ليست لديهم غابات ولا جبال، وربحوا الحرب ضد جيش كبير في الصحراء القاحلة، وأنتم لديكم طبيعة استراتيجية وعليكم استغلالها. "
وعرفت منه أن لديه العديد من المؤلفات، وأنه يكتب في بعض الصحف الكبيرة، وأنه يختزل دبلوماسية حركته الثورية آنذاك في شخصه وحده. وفي اليوم الأخير للندوة أعطاني بعض عناوين الصحف التي يكتب فيها أحيانا عن السياسة الدولية، وطلب من مصور جزائري حاضر للندوة إن يلتقط لنا صورة معا(الصورة المرفقة بالمقال)، وأن يبعثها لي. اتصلت، عن طريق الايميل، بالجرائد التي أعطاني عناوينها، أطلب منها إذا كتب فيها راموس اورتا شيئا عن قضية الصحراء أن يبعثوه لي بالبريد الاكتروني. في سنة 1999م، توصلت عن طريق البريد الالكتروني بمقال له عن القضية الصحراوية بالإنجليزية يتناول تطوراتها الأخيرة أثناء محاولة الأمم المتحدة تنظيم الاستفتاء.
الشيء المبهر في اللقاء
إن الذي بهرني في اللقاء مع راموس أورتا، رغم صعوبة الفهم، ليس اللقاء في حد ذاته، فهو يلتقي بالعشرات كل يوم، وليس أيضا أنني طربت لإن قضيتنا معروفة حتى في أدغال تيمور الشرقية التي يحاصرها الماء، بل أدهشني هو كيف أن الشخص بمفرده ممكن أن يسمو بقدراته الفردية حتى يصبح أشهر من بلده، وأنه يستطيع أن يقوم بمفرده بما تقوم به وزارة خارجية. فالرجل هو مفكر عالمي كبير، ورجل دبلوماسية من طراز نادر، ومن الصعب، بل من المستحيل، أن تلعب آلة دبلوماسية لدولة قائمة الدور الذي لعبه هو وحده، شخصيا، في الكفاح بالدبلوماسية والإعلام لإخراج بلده من دائرة النسيان، ومن العتمة التي لفتها بسبب الاحتلال الاندنوسي الذي استمر من سنة 1975م إلى سنة 2000م. فأثناء الاحتلال الاندنوسي كانت حركة تحرير تيمور الشرقية محاصرة إعلاميا ودبلوماسيا، وتعيش وضعا صعبا للغاية، خاصة على المستوى العالمي بسبب العزلة الجغرافية والتخلف التقني والمادي للبلد، لكن الرجل حمل بلده في قلبه وعقله، وبدأ يجوب العالم مُعرّفا بقضيته وشعبه. لكن الذي يجب أن لا يغيب عن أذهاننا هو أنه لم يكن يحمل جسده كحقيبة سفر فقط، مثلما يفعل الكثير من الدبلوماسيين الخاويين، بل جمع في عقله كل ما يحتاجه الدبلوماسي في عمله من ادوات مثل المعرفة والاقناع والتأليف وإتقان اللغات العالمية. . لقد كانت عدالة قضيته وثقافته وذكاءه من الأشياء التي جعلت العالم يعرف راموس أورتا، كشخص، قبل أن يعرف تيمور كبلد خاضع للاحتلال، وربما يكون هو وحده هو الذي عرَّف العالم على هذه الجزيرة الصغيرة المحتلة، وكان له الدور الكبير في حصولها على استقلالها، واعتراف العالم بها فيما بعد. استغل الرجل كل قدراته الفردية للتعريف بتيمور، بلده، في كل المحافل الدولية البسيط منها والكبير. كان يتنقل بين الجامعات والمنتديات والمؤتمرات، يلقي المحاضرات هنا، ويجري اللقاءات هناك، ولا يترك صحيفة يستطيع إن يكتب بها عن قضيته إلا وفعل حتى نجح في الأخير في فضح الاحتلال الاندنوسي وإخراج بلده من الدائرة المظلمة .
الشيء الآخر الذي أدهشني هو قوة معنوياته وتحديه. لو لم تكن معنوياته من فولاذ وتحدي ما كان عاد إلى رئاسة بلاده سنة 2022م هو الذي كاد يُقتل وهو رئيس سنة 2008م. مثل هذا التحدي لا شك أن صاحبه يحمل في ذهنه مشروعا حضاريا كبيرا، يريد تجسيده في البلد الذي اعطاه كل حياته.
أدهشني أكثر من ذلك حبه للشعب الصحراوي، وعدم نسيانه. حتى يُظهر أهمية الصداقة الحقة، استدعى الرئيس الصحراوي لحضور احتفال بلاده البعيدة التي، ربما، لا يعرف الكثير منا موقعها في الخريطة، ولا يعرف إنها تعترف بدولتنا. والواقع إنني لا أعرف هل زارنا مرة أخرى بعد سنة1997م أم لا؟ وهل وجهنا له دعوة أخرى أم لا، أم نسيناه هو الذي لم ينسانا.
إن هذا الرجل الظاهرة، وقبل إن يكون رئيسا، هو كنز عالمي ليس لتيمور بلده الصغير فقط، لكن للكثير من القضايا العالمية ومن بينها قضيتنا، فشكرا له ولبلده على المحبة وعدم النسيان.
السيد حمدي يحظيه
يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء