ما الذي حدث.؟



صَعَقَتْ محمود صورة مخيمه حين وقف عند تخومه بعد عشرة سنوات من الدراسة في الخارج. كان المخيم نائما وقت الظهيرة، ساكنا، هادئا دون أن يتحرك فيه احد ساعة الجمر تلك. لاحظ انه أصبح مخيما أخر غير المخيم الذي احتفظ له بصورة مخزونة في قاع ذاكرته: ازداد اتساعا، كبرت بيوته الطينية وأصبحت مغطاة بصفائح الزنك ونصبت فوقها هوائيات التلفزيون.
 المخيم مخدر تماما من العصب إلى العصب. لم يكن أي احد، لا الذباب ولا الأطفال، يتحرك تلك الساعة التي يسميها الناس " ساعة النار"( من الثانية ظهرا حتى الرابعة عصرا). يبدو أن الجميع ارتاح لظلال جدران الطوب، ونام يستمتع بأحلام لا أحد يعرف لونها. قديما كانوا يعملون في مثل هذه الساعة من النهار تحت شمس جهنم هذه. أو على الأقل كانت العريفات، في هذه الساعة، يتجولن هنا وهناك للقيام بعمل ما، أو للتحضير لاجتماع أو حملة شعبية.
توغل محمود في قلب المخيم وعيناه حائرتان تنظران إلى مظاهر التغير الذي حدث بعده. كان ينتشل رجليه من الرمل ويحاول انتشال أفكاره من التيه الذي وجد نفسه فيه. فكَّر أن يتجه إلى مبنى الإدارة يبحث عن مسئول المخيم ليسأله عن أين هي خيمة عائلته. لا بد أن المسئول الذي ترك تغيَّر أيضا من جملة المتغيرات. كان صديقه، وكانت مهمته حسب تعبير السكان آنذاك:- مكلف بفتح عيون رؤوس الناس. كان حماسيا وعلمه أشياء كثيرة، وهو الذي بعثه إلى الخارج يدرس الهندسة دون أن ينظر إلى نتائجه. كان يقول إنه ممتاز في الخطابة والكلام أمام الجماهير، وأنه سيكون من إطارات الغد. فكَّر هل سيجده أم لا.؟ هل سيعرفه الذي حل محله أم لا.؟
مشى حتى وقف أمام مبني الإدارة. المبنى لم يتغير. نفس المبنى الذي ترك بشكله الهندسي البسيط وبابه الخشبي، لكن يبدو أن الشمس كانت أقوى منه. استطاعت أن تقهره و تُغير لونه، وحَثَتْ الرياح الكثير من الرمال عند بابه ونوافذه. نقر بيدٍ جامدة ظنها غير يده على الباب، ففُتح بسرعة. صدمته موجة مفاجئة؛ خليط من الدهشة والارتباك وإحساس آخر غير مميز. قابله نفس المسئول الذي ترك هنا منذ عشر سنوات. لم يكن نائما رغم أن المخيم كله يغط في سبات عميق؛ لكن لم يكن أيضا مستيقظا؛ كان شبه مخدر. لم يتغير من منصبه، أما شكله الخارجي فقد تغير كثيرا مثل المخيم. أخذ ينظر إليه طويلا كمن لا يعرفه. لم يتكلم محمود في البداية من وقع المفاجأة التي صدمته. أخير نطق. قال له:- أنا فلان. كنت أدرس في الخارج. هل نسيتني.
بحث عنه المسئول بسرعة حتى استخرج له صورة باهتة من أرشيف ذاكرته المتعبة. عانقه وهو يقول له ويقوده إلى الداخل:- اعذرني. أنت تعرف أن عشرة سنوات ليست بالوقت القصير.
حرك الطالب العائد رأسه علامة قبول العذر ودخل وراءه. عادت الدهشة إلى نفسه من جديد وهو يتفرج على جدران مبنى الإدارة من الداخل. لم يتغير فيها أي شيء أيضا. نفس الشعارات التي ترك هنا، نفس صور الشهداء المعلقة التي تتحدى الزمن. الشيء الوحيد الجديد هو أن صور الشهداء أصبحت أكثر حتى كادت تغطي الجدران كلها. هناك صور شهداء جدد استشهدوا بعد رحيله. طاولة المكتب هي نفسها والرفوف التي عهده بها نظيفة أصبحت مغبرة مهملة بعض الشيء. قال له المسئول بصوت هادئ :- اجلس حتى تستريح..
اخذ يعد له الشاي ويقول له:- نتمنى أن تأتي بأفكار جديدة تغير حياتنا نحو الأفضل.
صوته لم يتغير، لازال قويا جوهريا لم يفقده الزمن تدفقه وحيويته. شاب شعره وترهل جسده فقط.
- قال له محمود :- يبدو أن حياة سكان المخيم تغيرت كثيرا أثناء غيابي. أصبح الناس ينامون وقت الظهيرة، وأصبحت منازلهم كبيرة ولابد أن لغتهم تغيرت أيضا. أين ذهبت العريفات اللاتي كنَّ يعملن في مثل هذه الساعة.؟
قرأ في وجهه أنه متسرع في كلامه وأحكامه. اخذ يتحدث له. نفس اللغة القديمة ونفس المفردات التي كان يتكلم بها في الزمن الماضي. تحدث له عن الوضع الراهن والقضية المعلقة بين الحرب والسلام ورايات الأمم المتحدة المغروزة في رمال وطننا وعن الوطن والشهداء. قال له أن عمل أمثاله غير متوفر وعليه أن يعمل أي عمل أخر في المخيم حتى لو لم يكن الهندسة التي درس عشر سنوات.
فكَّر أن يقول له:- كل شيء تغير حولك ماعدا أنت ومكتبك، لكنه أحجم.
بقى المسئول يتحدث؛ غلب محمود النوم والتعب السفر فنام..                                                                         
            **********
- في المساء أيقظته ضجة تحدث عند باب الإدارة. فتحه. كان هناك اجتماع للسكان يديره صاحبه مسئول المخيم. تسلل تهزه رعشة خائفة وجلس بين المجتمعين يستمع. كان كل سكان المخيم هنا تقريبا: رجال بثياب القتال ميَّز من بينهم مجموعة يعرفها قبل ذهابه للدراسة تحمل كلها أسماء حركية مثل أحمد الترية، علي المري وموسطاش والشيخ الذي يدق الجرس ويحرس مبنى الإدارة؛ نساء بينهن واحدة تحمل عَلماً كبيرا تتقي به حر الشمس القاهرة. في نفس الصف الأمامي تجلس الكثير من العريفات الأتي يعرف وجوهن، لكن نسى الأسماء.  سددت النساء – بالأخص- عيونهن نحوه يتفرسن في شكله الغريب. اغلب الحاضرات فتيات ذوات عيون جسورة لا تخاف. لما هدأت الرعشة في جسده واستعاد وعيه، اكتشف أنه أمام نساء غريبات على المخيم تماما، وان زلزالا حدث حقا أثناء غيابه. شعر انه في مخيم جديد يختلف عن المخيم القديم في كل التفاصيل ولا يتقاطعان إلا في المكان الذي تهب عليه الرياح وتصهده الشمس.
- قال المسئول للحاضرين: - اليوم نحتفي بقدوم احد طلبتنا كان يدرس في الخارج، ونتمنى أن تكون لديه أفكارا تغير حياتنا نحو الأفضل.
قال الشيخ الذي يدق الجرس ويدعو الناس لحضور الاجتماعات: "المشكلة إنه، على ما يبدو، سيحتاج لمن يوقظه. فرغم أنني دققت الجرس بقوة وبيدي الاثنتين وسمعه الناس في كل المخيمات، إلا أن صاحبنا لم يتحرك من فراشه". ضحك الشيخ بسخرية.
التفتت النساء من جديد نحوه، وسلطن عيونهن على وجهه. أحطن به وضيقن الحلقة حوله حتى كادت أجسادهن تعصره. شعر بضيق التنفس. لم تكن في الجو نسمات هوائية، وكان المكان يتنفس بروائح عطور مختلطة مع العرق والغبار. امرأة تسأله عن ابنها في روسيا، وأخرى عن إشاعة سمعتها، تقول أن أخاها تزوج في بلاد وراء البحار. حين هدأ الضجيج، قالت له امرأة:: وأنت كيف نجوت من نساء تلك البلاد التي كنت تدرس فيها.؟
انفجرت الضحكات حوله بطريقة مفاجئة تماما. طلبت إحدى العريفات من الجميع الصمت؛ طلبت أخرى الالتزام.
- قالت امرأة أخرى:-" هل صحيح انك عائد لتزرع أفكارا ملونة في مخيم يحلم أهله بالضوء والهواء."؟
- قالت ثالثة:- يقولون انك مهندس بارع، وانك ستغير هندسة بيوت الطوب.
-قالت رابعة:- هل صحيح انك سائق ماهر وتستطيع أن تقود السيارات في الليل بدون ضوء في الرمال.
كان كل سؤال يُتبع بضحكات عالية.
-قال صاحبه المسئول:- نتمنى أن تكون لديه أفكار جديدة تغير حياتنا نحو الأفضل.
- غمز شاب، أحد خريجي الجامعات محمود، وقال له بصوت خافت:- لا تستمع إليه. إنه يتكلم بأفكار قديمة في مخيم يعيش أهله حياة جديدة.
تغير كل شيء تقريبا في حياة وقلب المخيم اللاجئ. النساء يتكلمن لغة غير مألوفة ويلبسن ملاحف جديدة.. البعض يغني، البعض يرقص مع الغبار، وهناك فريق ثالث يفكر بعمق. أحس أن الأرض بدأت تدور به بسرعة عجيبة.
قال مسئول المخيم: سنقيم الليلة حفلا بمناسبة تخرجه. 
قال إحدى العريفات:- دعوا الشاب يتنفس. سنقيم الحفل في خيمتي وسينام عندي الليلة.
- قالت عريفة أخرى:- أنا أول امرأة شاهدته يدخل المخيم، ويجب أن ينام في خيمتي حسب التقاليد.
- صرخ المسئول:- دعوه يختار. إما أن نقيم له الاحتفال في الإدارة التي يعرف وينام فيها أو ينام في المخيم.
أسرعت مجموعة من النساء يجذبنه نحو المخيم، والمسئول يجذبه نحو الإدارة. فكَّر أن يقول له، إنه يفضل أن يُقام له الحفل في المخيم، لكنه خجل. دخل الإدارة مع مجموعة من العريفات، وقرر أن يُقام فيها الحفل وينام فيها أيضا.. أُقيم له حفل بسيط ومأدبة. كانت مطربة المخيم حاضرة، لكنها رفضت الغناء. انتهى الحفل. جهَّز له المسئول أفرشته وأغطيته، ووضع بجانبه الماء وأدوات الشاي وقال له:- تصبح على خير. أنا ذاهب أنام في المخيم.
تركه يتساءل: - ما الذي حدث في المخيم.؟




يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء