البحث في الوقت الضائع( قصة قصيرة)


Resultado de imagen de SAHARAWI WOMEN


الرسالة أمامها مطوية في انتظار وصول أحد ما يقرأها لها.. هي تعرف فك الحروف وقراءتها بصعوبة، لكن لا تفهم معنى بعض الجمل الطويلة المعقدة. حسبت في أصابعها المدة التي قضاها الولد يدرس في كوبا.. " ذهب بعد استشهاد والده بخمس سنوات... مضت خمسة عشرة سنة الآن.. هو اليوم فوق العشرين."
أحست أول مرة أن قطار العمر مر سريعا حقا، وأنه سرق منها ربيع الحياة، وأن النبض الذي كان يتدفق سيالا في دمها قد جف.. زوجها لم يبق منه معها سوى طفل واحد أو عبارة "استشهد في حرب التحرير"، أو بعض نوتات الذكريات الغامضة التي تعزف لها كلما نبض القلب بحب الحياة... أمتص الزمن ببطء الحياة من دمها لحظة بلحظة. لم تفكر أبدا أن تتحقق نبوءة ولي صالح قال لها في صغرها "أن أول ولد لها سيولد في أرض تبيًض فيها الغربان."ا

* * * * * * * *

قرأ لها الطالب محمود، أحد طلبة المخيم المتخرجين حديثا، الرسالة القادمة من عند ابنها الذي يدرس وراء البحر..في الرسالة قال لها ابنها " انه ملً، وأنه لا يستطيع أن يعيش في أرض تموت الأسماك في البحر من شدة البرد، ويتجمد البخار الذي يخرج من أفواه أهلها في الصباح" . وكتب لها أيضا أنه "عائد بمجرد أن يضع نقطة النهاية في أخر امتحان، وأنه إذا عاد فإن أول عمل سيقوم به هو البحث عن قبر والده كي يتعرف على مكانه شهيدا حين لم تمهله الحرب أن يتعرف عليه حيا." ولم ينس أن يخبرها أن والده يزوره دائما في الحلم، لكن وجهه غير واضح الملامح.
ارتجف قلبها في صدرها بفعل العمل الغريب الذي ينوي أبنها القيام به. أول مرة تحس برجفة قوية مثل هذه بين أضلاعها. عاشت في المخيم كل هذه المدة الطويلة رغم شراسة الطبيعة والواقع وفساد المسئولين.. ظلت دائما تحيا بقوة نابعة من نفسها خلقها الاعتزاز بالعمل العظيم الذي قام به زوجها.. " استشهد في الحرب"، كلمة خليط من الحياة والموت، الفناء والخلود تلقى القبول من أهل المخيم الذين دفنوا مئات الشهداء.

***********

ذات يوم ضرب الشيخ عمار، حارس الإدارة، الجرس يدعو الناس للاجتماع.  في اجتماع سكان المخيم، قالت أنها تطلب من المسئولين أن يبحثوا عن قبور الشهداء ويجددونها، خاصة أن أغلبهم دفُن في أرض صحراوية تهيل عليها الرياح والرمال كل لحظة.. صفَّق الجميع لها احتراما لعملها في المخيم( عريفة)، واحتراما لروح زوجها الشهيد، ولفكرتها التي تهدف إلى التذكير بالشهداء..  زغردة امرأة، ولوحت أخرى بعلم كبير في السماء. طرحت مشكلة البحث عن قبر زوجها على مسئول المخيم فأعطاها الحل في الحال.. كتب لها رسالة وقال لها: خذي هذه الرسالة وأذهبي إلى المكلف بملف الشهداء في وزارة الدفاع ليدلك على قبر زوجك."
سافرت وهي تحس أنها مسافرة- ليس من مكان إلى مكان- ولكن زمن إلى أخر.. وضعت الرسالة على المكتب في انتظار الرد.. كان المكلف بملف الشهداء يبدو متواضعا وطيبا بسبب المهمة المكلف بها.." مكلف بملف الشهداء"، وهو ملف مقدس في وجدان كل سكان المخيم.
قرأ الرجل الرسالة فتجمعت جيوش من الاستغراب والدهشة على صفحة وجهه وفي عينيه.
قال لها: أستطيع أن أعطيك التاريخ الذي استشهد فيه والمكان والمعركة.
قالت له: هذه المعلومات أنا أعرفها جيدا.
بعثها لمسئول اكبر منه لعدم استطاعته حل مشكلتها.. قال لها المسئول الآخر: لكن لماذا تبحثين عن قبره بالضبط.؟
قالت: أبني الذي يدرس في كوبا سيعود قريبا، وقال لي في رسالة أن أول عمل سيقوم به هو زيارة قبر والده.
أعطوها سيارة، وبعثوا معها مرافقين يعرفون الأرض معرفتهم لأكف أيديهم، خاصة المكان الذي استشهد فيه زوجها.. في المكان الذي ذهبوا إليه لم يبق هناك أي شيء ما عدا حفر عميقة مثل جراح عملاقة خلفتها القنابل ولم تستطيع الرياح أن تطمرها.. لا توجد قبور ولا نُصب ولا أي شيء.. لم يستطيعوا الاهتداء إليه بسبب خشونة الطبيعة التي لا ترحم..
قال لها أحد الرجال: لا يستطيع أن يدلك على قبره سوى أصدقائه.
في لحظات قليلة تذكرت أن الكثير من الرجال زارها بعد استشهاد زوجها، وأن البعض منهم أدعى أنه شارك معه في المعركة التي استشهد فيها ليربط نفسه به وبالبطولة والشجاعة والتاريخ..
البعض قال لها يومها: احرق وحده عشرة دبابات.. رأيته بعيني هاتين اللتين سيأكلهما الدود يطلق النار على جيش العدو حتى فرَّق شمله.
قال لها رجل أخر: أصابته قذيفة فسقط قريبا مني. حملته بين يدي حتى واريته التراب.
قال لها ثالث: دفناه قبل المغيب بملابسه. لم نغسله أو نكفنه، لكن المعجزة أن قبره كان محفورا بفعل قوة خفية كأنما كان ينتظر صاحبه بصفاته وقامته وعرضه وطوله.
لا زالت تتذكر وجوههم ولا زالت كلماتهم المضيئة، بفعل سحرها، محفورة في ذاكرتها كأنما سمعتها ليلة البارحة أو أول أمس فقط.. لكن أين هم الآن وسط هذه الفوضى الزمنية العارمة؟
سألت عنهم سعيد الجريح فقال لها: أولئك هم الرجال.. ذكرهم الله بخير. انتهى دورهم بنهاية الحرب، ولا أحد يعرف عنهم أي شيء الآن.          
" انتهى دورهم" صعد خيالها مع هذه الكلمة الرهيبة التي تختصر خارطة الضياع. لم تستطيع أن تتصور أي شيء أبعد من ذلك. وضعت رأسها بين أيديها مشتتة، تبكي في داخلها.
راحت تبحث عنهم واحدا، واحدا.
سألت أحمد الترية وموسطاش عن أحدهم فقالا لها: أنت تسألين عن رجل لم يعد أحد يسأل عنه. كان يقول أنه يستطيع أن يهزم جيش أمريكا وحده. لا نعرف أين هو الآن.!!!
لكن أين هو الآن من خارطة الجرح الواسعة مثل الصحراء..؟ سألت علي المري الذي كان يجلس على كرسي ينظر إلى الشمس بمنظاره فلم يجبها..قال لها الأطفال: أنه هناك منذ زمن يحرس الشمس ولا يتكلم مع أحد رغم أن عينيه مفتوحتين. كان مقاتلا شجاعا.
سألت عن الرجل الذي قال لها أنه دفن زوجها بيده، فقال لها رجل في سوق الطوب: أنا اعرف مكانه ولكنه لا يريد أحدا أن يتصل به.
قالت له المرأة: من فضلك قل له إنني زوجة صديقه الشهيد الذي دفنه بيده.
قال لها التاجر وهو منهمك في عد أوراق النقود: أي من أصدقائه الشهداء.؟ قال لي أنه دفن بيده أكثر من مئة شهيد.
سألت رجالا آخرين عن مكان قبر زوجها، لكن أحدهم فقد الذاكرة والآخر صار أصما فلم يفهما. قال لها البعض: قد لا يكون دُفن في المكان الذي استشهد فيه. ربما حملوه ودفنوه في مكان أخر.. منهم من قال لها، أنه ربما يكون جُرح وحملوه فاستشهد في الطريق ودفنوه في الظلام في مكان ما مجهول..
عادت تطوي صدرها على حزن هائل.. الرمل بلا ذاكرة والريح تعوي في الصحراء تسخر من بحثها عنه. الناس ذاكرتهم مشتتة، متصدعة وتكاد تكون فارغة تماما..لم تجد له أثرا في الذاكرة ولا قبرا فوق الأرض التي استشهد من أجلها.. لم يبق معها منه سوى معلوماته وصورة بالأبيض والأسود وولد سيعود قريبا من وراء البحر.. خُيِّل إليها أن ذاكرة الناس صارت مليئة بالعدم والغبار..
في اجتماع المخيم سألت الناس: كيف سأجيب ابني إذا عاد وسأل عن مكان قبر والده.؟
أخذ مسئول المخيم الميكروفون وقال لها: قولي له أن والده دفن في أرض الوطن. إذا عاد أبنك قولي له أن يصلي في أي مكان من الوطن فهناك يوجد قبر والده أو توجد بصمات بطولته..
لم تفهم أي شيء.. انتهى الزمن بالنسبة لها... راحت تتفرج على المشهد الذي رسمه السكان أثناء تفرقهم من الاجتماع في اتجاهات مختلفة، بينما كانت الريح تهب وتسير بقوة في اتجاه واحد...
 



يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء