شاحنة بلا سلالم
الساعة الثالثة بعد الزوال في يوم من أيام
الصيف الطويلة.. الحرارة الخانقة تجفف، تعصر خلايا الجسد من الماء المالح.. وتحرق،
أيضا، النسمات الهوائية القليلة من أمام الأنوف.. توجه سعيد، أحد جرحى الحرب، من
المركز المنسي في السبخة إلى محطة شاحنة النقل..كان عليه أن يغادر على الساعة
الثالثة حتى يصل إلى المحطة على الساعة السادسة.. في الطريق كان يتذكر خيالات
رفاقه، ويسمع أصوات رصاص منذ زمن الحرب.. يرفع رأسه لينظر إلى غيوم من الغبار في
السماء. يتخيل رؤية صقور تحلق عاليا، يسمع حتى صهيل خيول تركض. ينسف كل هذه
الخيالات المُكدرة من ذهنه، ويركز تفكيره على الواقع الذي يرافقه. بدأ يتخيل شاحنة
النقل الجديدة. هو لم ير هذه الشاحنة بعد، لكنه سمع عنها الكثير من الأخبار التي
لا تصدق ولا تكذب...
وصل إلى المحطة، ووقف ينتظر مع المسافرين،
وينظر إلى المكان الذي ستأتي منه الشاحنة... جاءت الشاحنة بعد وقت طويل من
الانتظار.. نظر إليها الجريح بدهشة من أقرب نقطة: " شاحنة جديدة قوية ذات
عجلات تستطيع تكسير الصخر وتحوله إلى هشيم إذا مرت فوقه. في زمن الحرب كانت شاحنة
النقل عسكرية، غنيمة من ميدان المعركة، مقصورتها مكشوفة ولا يركب فيها سوى الذين
لا يؤمنون بالموت.. كانت الطريق صعبة وغير معبدة، والموت كامن في كل مكان..
الألغام مدفونة في تحت الأرض والكمائن تُعد بالمئات...المقصورة لم يكن يركب فيها
زمن الحرب سوى رجال أساطير يولَدون مرة واحدة فقط . .. لا حرب الآن. توقفت
المعارك، وبدأ زمن السلم؛ صارت المقصورة وثيرة مغطاة بالزنك والزجاج، الكراسي
مريحة، محشوة بريش النعام، المرايا الجانبية غير مكسورة ودون الزجاج غطاء بلاستيكي
أسود. نظر إلى ركاب المقصورة فلم يعرف منهم أحدا.. لم يتذكر أن أحدا منهم كان معه
ذات يوم في خنادق الحرب.
حانت
ساعة الصعود إلى الشاحنة..
تدافع المسافرون نحو جوانب الشاحنة تدافع
الثيران..عصرته هو الأكتاف والعضلات والأكياس ولفظته إلى الوراء فكاد يسقط..تصدى
له مقاتل اسمه موسطاش يعرفه فأنقذه من السقوط وهو يقول له: "تشجع.. الله
إعاونك.."
دار حول الشاحنة يبحث عن السلالم فلم يجدها. حاول
أن يجرب الصعود مثلما يفعل الناس، لكن أحدهم يحمل كيسا دفعه أثناء صعوده حتى أعاده
إلى المؤخرة.. كاد يسقط تحت الأرجل لو لا أن تمسك بلباس موسطاش... بدأ يراقب الناس
يصعدون: كان بعضهم يقفز فيتمزق سرواله؛ البعض كانت تنكشف عوراتهم وهم يصعدون. صعد
الجميع بقوة العضلات والتحمل وبقى هو وحده في الأرض..زمجر محرك الشاحنة القوي
استعدادا للسفر إلى المخيم. جمع قواه وحاول أن يصعد، لكنه لم يستطيع أن يرفع رجله
المجروحة ويتسلق بها.. حاول، فكاد أن يسقط..نظر إليه السائق في المرآة الجانبية،
وضغط على المنبه يحثه على الصعود بسرعة..شاهده المقاتل الذي يسمونه المري فعرفه.
صرخ في وجوه المسافرين والسائق. كانت صرخته مثل صرخة ضمير استيقظ فجأة في الظلام..
قال لهم بعد أن صرخ: ليهبط أحد ركاب المقصورة ليصعد مكانه جريح الحرب، فهو أحق منا
جميعا بمكان..
صرخ مسافر أخر: بالعجلة.. الليل راح..
صرخ أخر بغضب يحث السائق على السير:
"بالعجلة، بالعجلة هذا ما هو باقي يركب"
صار هو حتى وقف قرب المقصورة، لكن لم ينزل
أحد.. عاد الصراخ يحث السائق أن ينطلق قبل حلول الظلام.. فكَّر الجريح أن يقف أمام
الشاحنة ليعرقل سيرها... تمنى لو كان يحمل بندقيته ليطلق النار في الهواء يرهب بها
ركاب المقصورة شبه السكارى..
ضغط السائق على المنبه يحذره أن يبتعد عن طريق
الشاحنة.. عاد إلى جوانب الشاحنة لكنه لم يوفق مرة أخرى. مد له أحمد الترية المقاتل، الذي يتذكر
بطولاته، يده ليجذبه إلى الأعلى، لكن الشاحنة تحركت إلى الأمام تاركة آياه في
الساحة وحيدا. بدأ المقاتل موسطاش، يضرب جنب الشاحنة بقوة محتجا على السائق الذي
لم يحرك ساكنا لمساعدة الجريح على الصعود..توقفت الشاحنة ثم عادت إلى الوراء بضعة
أمتار.. نزل السائق غاضبا وأمر الجميع أن ينزل بسبب الفوضى، بما فيهم ركاب
المقصورة..نزلوا يزمجرون ويرغون مستقبحين فعل السائق الارتجالي غير القانوني في
نظرهم.. بعضهم بدأ يحذر ويتوعد أي شخص يحتل مكانه في الكراسي الأمامية، والبعض
يقول بصوت فيه تحدي أنه لا يرضى عن مكانه بديلا..أمر السائق الركاب أن يقفوا من
جديد في الصف، ثم ألقى عليهم خطابا مطولا قال فيه، أنه لو لا الشهداء والجرحى ومن
بينهم هذا- وأشار إلى الجريح سعيد- لما كنا ننعم بما ننعم به الآن من رخاء.. انه
أحق منا جميعا- يقول السائق- بالكراسي الأمامية الوثيرة.. أنكسر بعض المقاتلين
لكلام الرجل. بكى موسطاش والمري والترية. بكت بعض النساء، أخفى البعض عيونه حتى لا
يبكي. أخفض البعض الأخر رؤوسهم علامة الأسف، وحل صمت الذنب على المكان..حين هدأ
غبار الفوضى، أمر السائق الركاب أن يصعدوا إلى الشاحنة. صعدوا جميعا بنفس الطريقة
التي صعدوا بها من قبل: عاد ركاب المقصورة إلى مقاعدهم الأمامية، وعاد الآخرون
بقوة العضلات إلى الحوض الخلفي للشاحنة، وبقى الجريح على الأرض دون أن يساعده أحد
على الصعود.. تضامن معه موسطاش ومقاتلون آخرين يعرفونه فلم يصعدوا. حل الظلام،
تحركت الشاحنة محدثة غبارا كثيفا لوث وجه الجريح وعينيه. لم يعرف بقية الركاب،
بسبب الظلام والغبار، إن كان الجريح صعد أم بقى في الأرض..
يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء