أرتسامات مشارك في ندوة رابطة الصحفيين والإعلاميين الصحراويين


  في محطة الحافلات في مدريد ذهابا وإيابا
في حلق محطة الحافلات في مدريد أنتهى زمن وبدأ زمن آخر.. في الحقيقة مدريد، المدينة الاسمنتية التي فرضها فرنكو على جغرافية أسبانيا، بيني معها حاجز أسمه: لا تعجبني.. لا تعجبني مثلما لا تعجب أي منا كل الأشياء التي نحس أنها مفروضة وفي غير مكانها أو في غير زمانها.. أقتطع التذكرة إلى طيليلة – طوليدو- وأنظر إلى التوقيت الذي ستخرج فيه الحافلة إلى طليطلة. سيكون على الحادية عشر تقرييبا.. ساعة متأخرة ومخيفة نوعا ما معنويا، لكن المحطة قد توفر بعض الآمان البارد في المقهى المدفوع الثمن.. بمحض صدفة من هذه الصدف التي تنفتح مثل الأصداف أعترض طريقي شاب صحراوي وسلَّم علي بحرارة، وذكّر ذاكرتي التي بدأت تنسى الوجوه أننا التقينا في الجزائر العاصمة في صيف سنة 2014م.. صدق، لكن النسيان يغلب الذاكرة في النهاية.. نسرع إلى مقهى المحطة ظمآنين إلى كفايين قهوة ساخنة ذات مذاق مر نوعا ما رغم كثرة السكر عند النادلة.. هو أيضا سيتنظر مثلي أو أكثر، لكن كل منا سيتجه مثل سهم على خريطة نحو أتجاه: أنا إلى الجنوب وهو إلى الشمال البارد الممطر أو إلى الباييس باسكو، أو الولاية الصحراوية السادسة في المهجر مثلما سماها هو ضاحكا بشبه سخرية.. نرتشف نيكوتين القهوة وترتشف هي بعضا من غربتنا وتغربنا.. ينظر كل منا خلال صحو الصمت إلى قاع فنجان القهوة كمن يقرأه للتنجيم.. هو خريج جامعي تخرج من سنتين وركب قطار الغربة جريا وراء الأوراق وجواز السفر ومتاعب المهجر التي لا تنتهي إلا لتبدأ.. وأنا أسأله ماذا درس في الجامعة وفي ماذا يخطط للمستقبل، يسألني هو كمن عنده شك نفس السؤال: وأنت من أية جامعة تخرجت؟ أقول أنني لم أتخرج من جامعة.. عند أعتباها مباشرة طلبوا منا باسم الوطن أن نذهب إلى جامعة الجيش، وقالوا لنا أن شهادة التخرج من جامعة الجيش هي أسمى شهادة.. كنا حوالي 300 شاب شكَّلنا فيلق الشهيد الناجم التهليل، الكثير منا لم يسأل عن نتيجة الباك وإلى حد الآن لا يعرف هل نجح أم رسب.. ذهبنا وتدربنا خمس سنوات، وحين أصبحنا في جاهزين للقتال توقفت الحرب.. عدنا إلى المخيمات لنعمل دون أن نطلق طلقة واحدة؛ صحيح استشهد منا بعض الرفاق في معارك منفردة مع نواحي أخرى، لكن عدنا مجروحين بدون شهادات من الجيش ولا شهادات من الجامعة.. نسكت ننظر إلى فناجين قوتنا التي كانت تبرد شيئا فشيئا تحت وقع حركة الساعة البطئية.. ويقول هو قاتلا ذالك الصمت لكنكم الآن تقاتلون في مجال الإعلام.. وستعقدون ندوتكم غدا.. نعم، نقاتل بالكلمة، لكنه قتال على مساحة واسعة ولا تعرف هل أصاب العدو أم لا؟
ويقول هو: أنا كنت أحلم أن أصبح صحفيا لكن فضلت دراسة العلاقات الدولية.. الحديث عن الجامعة الوهمية بقى، دون أن نخطط لذلك، يطاردنا في طليطة. فخلال الليالي التي قضيناها هناك كان أحد ما يسأل، بدون قصد، عن الجامعة ونحن على طاولة العشاء فأقول لهم مازحا أنني لا أحب سماع كلمة الجامعة كأنما لن تعد تعني أي شيء وهي تعني الكثير..  
******
في أثناء العودة من طليطلة بعد الندوة قرب نفس المحطة أفترق مع صديق شارك في الندوة، وهو يقول أنه هو ذاهب إلى اليسار وأنه علي أنا، تفاديا للضياع في جوف مديد، أن أذهب إلى اليمين. أصبح هو يساريا واصبحت أنا يمينيا وضحكنا.      
في ذات المحطة، وفي طريق العودة من طليطلة، التقيت بالأستاذ الصحراوي، أستاذ الترجمة في جامعة غرناطة لعروسي حيدار. واحد من القلائل الذين نجحوا ويفتخر بهم الصحراويون.. أستاذ صحراوي يدرِّس أبناء الأسبان في جامعة أسبانية. هو معروف عند الصحراويين، لكن حين ذكَّرني أنه ربما يتذكرني حين كنت في فيلق الشهيد الناجم التهليل، وأنه هو كان مقاتلا وكان مشرفا على تدريب فيلقنا تقربت منه أحتراما لذكرى ذلك الفيلق.. أستعدت بعض الدفء الكلامي معه حين بدأ يسألني عن أسماء المدربين والرفاق من ذلك الفيلق المميز بشهادة الجميع.. جلسنا نرتشف قهوة في المحطة في أنتظار أن تحين ساعة الحافلة. هو متوجه إلى غرناطة وأنا إلى اليكانتي، لكن الحديث قادنا إلى التاريخ وإلى الواقع، خاصة أنه هو يشتغل في هذا الحقل ووالده أيضا.. ويقول الاستاذ لعروسي أن فيلقنا، فيلق الشهيد الناجم التهليل، كان من خيرة الفيالق التي مرت بالتدريب. وأعيد عليه ما كنت قلته للشاب الذي جمعني به غربة المحطة في السابق: ذهبنا لنقاتل وحين أصبحنا جاهزين توقفت الحرب فعدنا مجروحين بلا شهادات وبلا اوسمة عسكرية.. الآن تبخر ذلك الفيلق وأصبح فقط مجرد ذكرى أو اسطورة.. حل شباب جديد محل الشباب القديم، لكن هناك، طبعا، فروق لا يعرفها إلا الذين أحتكوا بفيلق الناجم التهيليل مثل الاستاذ لعروسي....     
ترميم الرابطة
كانت محظة تأسيس رابطة الصحفيين والإعلاميين الصحراويين في أستورياس في ديسمبر 2014م حدثا ساخنا أستنهض همم الكثيرين من الذين مارسوا مهنة استنشاق الحبر والكتابة الصحفية الساحرة في مرحلة ما من العمر.. جاؤوا من مناطق بعيدة لينفخوا في رماد المهنة التي حلموا بها وهم شباب ومارسوها في مرحلة من العمر ثم طردهم الواقع وفصلهم منها أو أكتشفوا أنها براقة فقط أكثر مما هي مجزية.. ومع ذلك جاؤوا إلى استورياس وتعانقوا وتذكروا بعضا من الماضي الذي هرب في دهاليز زمن يزداد قتامة.. كان عددهم في حفل التأسيس في استورياس أكثر من هذه المرة، فدائما يكون الحماس للفكرة وللبداية فوارا، لكن حين نصل إلى ميدان العمل نبدأ مراجعة هامش الخطأ الذي قد يكون كبيرا، والذي يجعلنا نعمى دائما، بفعل الحماس، عند التأسيس عن ما يخبئه لنا الميدان من تفاصيل صعبة او مستحيلة..
الآن في جمع الرابطة الثاني في طليلطة( طوليدو) – نسميها طليطلة في محاولة للسخرية من الهزيمة والتاريخ وسنفصل لها مقالا قادما- حدث تكسر في المشهد. فمن بين الذين حضروا في حفل التأسيس تغيب عشرة تقريبا بفعل ضغط الواقع اليومي لكل منا، لكن، ولتعويض الهزيمة العددية في الحضور، حضر عشرة او أكثر ممن منعهم الواقع من الحضور في حفل التأسيس.. جاؤوا هم أيضا للقاء برفاق المهنة وليغذوا فضولهم بما كانوا سمعوه عن حفل التأسيس، وكي يحيوا هواية الصحفي أو الإعلامي التي تصارع من أجل البقاء في أعماقهم ومعنوياتهم.. المهم حضر عدد جديد على أنقاض المتغيبيين قهرا؛ عدد من الإعلاميين الذين قتلت الغربة وسرابها وأضوائها ووهمها الجميل موهبة وهبة الإعلامي فيهم، وبقيت مجرد ذكرى فقط أكثر مما هي حقيقة.. لم يبق للذين حضروا سوى معنويات أن لديهم قضية دافعوا\ يريدون الدفاع عنها حتى النهاية، ولديهم تصور ممزوج بحلم هو أن تكبر الأقلام وتتضخم حتى تتحول إلى رماح لمناكفة المحتل المغربي، ويسيل الحبر حتى يصبح قادرا على تفجير خنادق العدو.. التشاؤم يحضر إلى ذاكرة المعنويات؛ كيف لا ونحن في مدينة طليطلة، في منطقة الدونكي شوت، كاستيلا لامنتشا، وهو يحارب طوحين الهواء بالرماح ويضحك. التصور المبالغ فيها قد يضع بدل رمح الدونكي شوت قلما أو العكس.. يحمل الدونكي شوت قلما كبيرا بدل رمح ويروح يحارب الطواحين.
في الندوة التي تم تنظيمها بمجهودات المسؤلين عن الرابطة المدعومين بحماس ومجهودات مكتب الجالية الصحراوية في أسبانيا ومن مكتب الجبهة في طليطلة وجمعية الصداقة المحلية. ومثلما حدسنا في ندوة التأسيس كان على طاولة هذه الندوة ملف الصعوبات التي تحاصر عادة أية مبادرة تبدأ من الصفر. فالفريق الذي تم انتخابه في أستورياس، في مؤتمر التأسيس،  فرقته يد البعد وصعوبة التواصل وهموم الحياة اليومية وعبثت به رياح الغربة .. في طليطلة جاء الفريق المنتخب في استورياس يحمل الكثير من ملفات الشكاوى بسبب الصعوبات التي كانت تختبئ في كل زاوية في ميدان التنفيذ.. كانوا يحلمون بحماس الشباب أن ينطلقوا نحو آفاق خضراء غير رمادية، لرابطة متألقة وفعالة في الميدان.. ربما في خضم ذلك الحماس لخدمة القضية الوطنية إعلاميا نسوا، للاسف، أن أي مشروع لا يستطيع أن يقف دون المرور  بمراحل الزحف والحبو ثم الوقوف ارتكازا.. نحن الذين شاركنا في حفل التأسيس كمدعويين كنا ننتظر أو ربما نتصور أن أن تكون هذه المحطة- محطة طليطلة- عبارة عن ندوة الأنطلاقة الفعلية العملية للرابطة، وأن تكون الأشهر التي تلت التأسيس عبارة عن مرحلة تفكير هادئ لوضع خارطة طريق للتصورات في المستقبل، لكن فآجأنا أن الفريق الذي تم انتخابه في ندوة التأسيس حاول أن يكسر قشرة البيضة قبل الآوان، ويصنع أجنحة مبكرة ليحلق في فضاء الصعوبات التي تعاندها الإرادة التي عادة ما نخدع أنفسنا ونقول أنها تصنع المستحيل.. كان على الطاولة الكثير من الإنجازات مثل تصميم موقع الكتروني بالعربية والأسبانية وفتح قنوات أتصال مع الكثير من الرابطات والمشاركة، باسم الرابطة، في بعض الفعاليات وإحصاء الصحفيين الصحراويين في أروبا وربط الأتصال الالكتروني معهم.. ومع ذلك يبدو من خلال النقاش والتقارير،  أن الفريق لم يكن راضي عن عمله خلال هذه الفترة التي كنا نحن المدعويين نظن أنها ستكون فقط محطة لوضع خارطة طريق..                                
     في هذه الندوة يبدو أن الشباب تشرَّبوا ببعض التعقل والتركيز وأرادوا البداية من الأساس وليس من الفراغ.. تمت الاستفادة من أخطاء الشهور الماضية وتم وضع خطة لمحاولة النهوض من جديد وترميم مشروع الرباطة بما يمكن أن يجعلها في المستقبل أكثر مفيدة.. لم تحدث الآن أنتخابات جماعية لانتخاب أعضاء فريق العمل وتم استبدالها بانتخاب رئيس الرابطة فقط، وهو يقوم بتعيين فريقه، وأعطاه تغيير قانون الرباطة الأساسي صلاحيات أن يقوم بالتغيرات اللازمة لفريق العمل في حالة التغيب أو صعوبة الأتصال..
ورغم أن مشروع برنامج العمل كان كبيرا جدا لكن الآن هناك توجه للسير إلى  الأمام لكن خطوة خطوة دون القفز في الفراغ.. سيبدأ تفعيل الموقع الالكتروني في البداية، ثم تبدأ المبادرات الدبلوماسية والتواصل ومحاولة المشاركة في المنتديات في انتظار أن يتم أعتماد الرابطة في أسبانيا..
ورغم عدم رضى فريق الرابطة عن عمله في الشهور الماضية، لكن الحقيقة هي أنهم قاموا ببعض العمل، أو إذا أردنا الإنصاف اجتهدوا وحاولوا وعملوا وهذا ما يستطيعون..
تصوري الشخصي يقودني إلى القول أن المرحلة القادمة ستشهد عملا جيدا للرابطة خاصة في ميدان العمل والأتصال وستجمع حولها كل الذين ردم رماد المهجر مواهبهم الصحفية والإعلامية..

المقال القادم: طليلطة           

يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء