ذهب في سيارة قسم الشهداء( قصة قصيرة)


Resultado de imagen de ‫سيارة لاند روفر‬‎كان سعيد تقريبا في مثل أعمارنا أو أكبر بقليل.. حين يعود من جبهات القتال،يحتفي بنا نحن الطلاب أكثر مما يحتفي بالمقاتلين.. يحس أنه شاب وطالب أكثر مما يحس أنه مقاتل.. بلا شارب رغم أنه يحلق ذقنه لينبت الشعر، شعر رأسه طويل، وحين نضحك من طول شعره يتحول إلى الجد ويقول لنا: أقسمت أن لا أحلقه إلا بعد العودة إلى الوطن..  كان حتى يتحايل على قيادته كي يجمع كل عطل السنة لتكون في الصيف ليلتقي معنا.. نستقبله بفرح غامر.. أصبح جزاءا من برنامجنا الصيفي.. لا ياتي بالحلوى ولا بالكرات ولا بالسكر، لكن يأتي بالكثير من الأخبار عن القتال والحرب.. ملابسه مشربة دائما من رائحة الدخان والبارود.. في آخر مرة التقيناه قال لنا أنه سيتزوج إذا عاد في العطلة القادمة..  

كان مساء ذلك اليوم عاديا جدا في مخيمنا، وكلمة "عادي" جدا نستعملها وقتها لوصف أي يوم من اجندة حياة مخيمنا الرتيبة. فمثلا حين تهب الريح بشراسة وتحطم خيامنا فهذا يوم عادي، وحين تصل درجة الحرارة خمسين درجة فهذا يوم عادي، وحين يفيض الوادي ويدمر منازلنا نقول، أيضا، عادي. كلمة "عادي" في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات كانت تعني ان لا بيوت من الطوب، ولا ضوء بالطاقة الشمسية ولا مكيفات.. فقط رحمة الطبيعة، ورحمة ربي، لكن كانت المعنويات فوق شمس، وكانت شجرة الاحلام تورق كل صباح. ذلك اليوم دخلت سيارة عسكرية مكشوفة الى مخيمنا وتوغلت بين أحيائه. خرج الناس يستطلعون الامر. خروج الناس واطلالتهم من الخيم كان يعني ان صفة "عادي" انكسرت ذلك اليوم.. غريبة، سيارة عسكرية مغبية تتوغل بين أحياء مخيمنا الذي لا يدخله الرجال إلا برخصة، ومن يدخله متسللا تتم معاقبته ويتبعه الأطفال وهم يهتفون: أذهب إلى الجيش أو البس ملحفة..  توجهت السيارة إلى خيمة عائل ةسعيد الذي نحب.. نزل منها شخصان بلباس عسكري منظم. هئتهما وبشرتهما البيضاء تدل أنهما ليسا مقاتلين، يبدو انهما من موظفي الرابوني. دخلا الخيمة ثم ما لبث احدهما ان خرج مع والد العائلة. بضعة كلمات فقط وانتهى الحديث. عاد الوالد مسرعا الى خيمته وغادرت تلك السيارة مسرعة أيضا. تكسر العادي. حدث كل هذا في دقائق، وامام استفسار وفضول الذين كانوا ينظرون الى المشهد .ماكاد يختفي صوت محرك. السيارة حتى سمع الناس صوت بنات العائلة يولولن، وسمعوا أيضا صوت الوالد يهدد: اذا بكت واحدة اذبحها". تبع ذلك صوت لام تزغرد. شيء غريب. في لحظة واحدة تبادل،الحزن والغضب والفرح الادوار: ولولة، وتهديد بالذبح ثم زغرودة. يا لقدرة صدر مخيمنا على كل هذه المتناقضات، وعلى التحمل. تطاير الخبر مثل العجاج. ولد تلك العائلة، سعيد الجميل غير المتزوج، والذي كان سيتزوج اذا عاد في رخصة استشهد، فضل حورية في الجنة على خطيبته في المخيم.. ذهب في سيارة قسم الشهداء.. مع المغرب كان الوالد يعود من الحظيرة حاملا شاة مسلوخة ليعشي الشهيد. منذ ذلك اليوم أصبحت تلك السيارة نذير شوؤم، أصبحت مثل الغراب، لا احد يريدها ان تزور ساحته،. أصبحت مثل الريح، كلما شاهدها احد طلب من الله ان لا تتجه اليه. قبل استعمال السيارة كان هناك شخص هو المكلف بإخبار الناس بالشهداء، كان عادة يدخل المخيم بصمت في الليل، يخبر العائلة ثم يخرج مثلما دخل بصمت أيضا تماما مثل الموت الذي يحمل أخباره. السيارة صارت أكثر جراة، تدخل في عز النهار وصوتها يكسر صمت المخيم. يراها الجميع ويسمع صوتها ويعرف انها سيارة قسم الشهداء. من جديد تعود صفة "عادي" للمشهد اللغوي. كان عاديا أيضا أن تحدث المعارك يوميا، وشيئ عادي كذلك ان يسقط الشهداء وبكثرة. . سقوط الشهداء كل يوم جعل تلك السيارة تصبح اكثر جراة على اختراق حدود المخيم كل وقت. تالف الناس معها، او فرضت عليهم ذلك. لم يفعلوا اكثر من ان سموها سيارة قسم الشهداء التي ذهب فيها سعيد. 

يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء