ذهب في سيارة قسم الشهداء


‬‎كان سعيد قصيدة لحَّنها الصيف واللجوء ذات يوم في مخيمنا.
لكن فجأة سكت ذلك النغم دون مبرر وترك الصمت والتساؤل. كان تقريبا في مثل أعمارنا أو أكبر بقليل.. حين يعود من
جبهات القتال في الصيف يحتفي بنا نحن الطلاب أكثر مما يحتفي بالمقاتلين.. يحس أنه شاب وطالب أكثر مما يحس أنه مقاتل. كان يحمل روح طفل او شاب،  لكن يقاتل بقوة وشجاعة وجسم مقاتل. بلا شارب رغم أنه يحلق ذقنه لينبت الشعر، شعر رأسه طويل، وحين نضحك من طول شعره يتحول إلى الجد، ويقول لنا: أقسمت أن لا أحلقه إلا بعد العودة إلى الوطن..  كان حتى يتحايل على قيادته كي يجمع كل عطل السنة لتكون في الصيف ليلتقي معنا.. نستقبله بفرح غامر.. أصبح جزءا من برنامجنا الصيفي.. لا يأتي بالحلوى ولا بالكرات ولا بالسكر، لكن يأتي بالكثير من الأخبار عن القتال والحرب.. ملابسه مُشربة دائما من رائحة الدخان والبارود.. في آخر مرة التقينا به قال لنا أنه سيتزوج إذا عاد في العطلة القادمة..  

كان مساء ذلك اليوم عاديا جدا في مخيمنا، وكلمة "عادي" جدا نستعملها وقتها لوصف أي يوم من اجندة حياة مخيمنا الرتيبة. فمثلا حين تهب الريح بشراسة وتحطم خيامنا فهذا يوم عادي، وحين تصل درجة الحرارة خمسين درجة فهذا يوم عادي، وحين يفيض الوادي ويدمر منازلنا  الطينية نقول، أيضا، عادي. كلمة "عادي" في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات كانت تعني ان لا بيوت من الطوب، ولا ضوء بالطاقة الشمسية ولا مكيفات.. فقط رحمة الطبيعة، ورحمة ربي، لكن كانت المعنويات فوق شمس، وكانت شجرة الاحلام تورق كل صباح، وكان سعيد لحنا لقصيدة صيفية جميلة. كلمة  " عادي" تسير جنبا إلى جنب مع كلمة "لابأس". لابأس تقال دائما في مخيمنا كجزء من السلام والتحية. كان الرجل الجريح الذي فقد نصفه يقول لك " لابأس الحمد لله." يقولها لك الشيخ وهو على حافة القبر، وتقولها لك الأم بعد سماعها لاستشهاد ولدها الوحيد. اكتسب مخيمنا مناعة معنوية حتى على مستوى التحمل. .
ذلك اليوم دخلت سيارة عسكرية مكشوفة الى مخيمنا وتوغلت بين صفوفه المنتظمة مثل صفوف العسكر. خرج الناس يستطلعون الأمر. خروج الناس واطلالتهم من الخيم كان يعني أن صفة "عادي" انكسرت ذلك اليوم.. غريبة، سيارة عسكرية مغبية تتوغل بين أحياء مخيمنا الذي لا يدخله الرجال إلا برخصة، ومن يدخله متسللا تتم معاقبته ويتبعه الأطفال وهم يهتفون: أذهب إلى الجيش أو البس ملحفة..  توجهت السيارة إلى خيمة عائلة سعيد الذي نحب.. نزل منها شخصان بلباس عسكري منظم. هئتهما وبشرتهما البيضاء تدل أنهما ليسا مقاتلين؛ يبدو انهما من موظفي الرابوني الذين لا يصنفهم مخيمنا كمقاتلين. دخلا الخيمة ثم ما لبث احدهما ان خرج مع والد سعيد. بضعة كلمات فقط وانتهى الحديث. عاد الوالد مسرعا الى خيمته، وغادرت تلك السيارة مسرعة أيضا. تكسر زجاج كلمة "عادي". حدث كل هذا في دقائق، وأمام استفسار وفضول الذين كانوا ينظرون الى المشهد غير العادي .ماكاد يختفي صوت محرك السيارة حتى سمع الناس صوت بنات العائلة يولولن، وسمعوا أيضا صوت الوالد يهدد: اذا بكت واحدة اذبحها". تبع ذلك صوت لام تزغرد. شيء غريب. في لحظة واحدة تبادل، الحزن والغضب والفرح الأدوار: ولولة  وتهديد بالذبح ثم زغرودة. يا لقدرة صدر مخيمنا على كل المتناقضات، وعلى التحمل.. تطاير الخبر مثل العجاج. ولد تلك العائلة، سعيد الجميل غير المتزوج، والذي كان سيتزوج إذا عاد في رخصة استشهد؛ فضل حورية في الجنة على خطيبته في المخيم.. ذهب في سيارة قسم الشهداء.. الغريب انه لم يحلق شعر رأسه برا بقسمه. مع المغرب كان الوالد يعود من الحظيرة حاملا شاة مسلوخة ليعشي الشهيد. منذ ذلك اليوم أصبحت تلك السيارة نذير شؤم، أصبحت مثل الغراب، لا أحد يريدها ان تزور ساحته،. أصبحت مثل الريح، كلما شاهدها احد طلب من الله ان لا تتجه إليه. قبل استعمال السيارة كان هناك شخص هو المكلف بإخبار الناس بالشهداء. كان عادة يدخل المخيم بصمت في الليل، يخبر العائلة ثم يخرج مثلما دخل بصمت أيضا تماما مثل الموت الذي يحمل أخباره. السيارة صارت أكثر جرأة، تدخل في عز النهار وصوتها يكسر صمت المخيم. يراها الجميع ويسمع صوتها ويعرف انها سيارة قسم الشهداء. من جديد تعود صفة "عادي" للمشهد اللغوي في مخيمنا. كان عاديا أيضا أن تحدث المعارك يوميا، وشيئ عادي كذلك ان يسقط الشهداء وبكثرة، وشيء عادي ان يستشهد خمسة رجال العائلة واحدة.  . سقوط الشهداء كل يوم جعل تلك السيارة تصبح أكثر جرأة على اختراق حدود المخيم وخطوطه الحمراء كل وقت. تآلف الناس معها، او فرضت عليهم ذلك. لم يفعلوا أكثر من أن سموها سيارة قسم الشهداء التي ذهب فيها سعيد. حين عدنا في الصيف علمنا ان سعيد استشهد، فاتفقنا أن سعيد لم يوجد أصلا في مخيمنا، لكن كان فقط اغنية جميلة غناها لنا الصيف وانتهت..
blog-sahara.blogspot.com.es
السيد حمدي يحظيه

يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء