رحل لمغني، صاحب الفراسة والنخوة


رحل بادي محمد سالم، لمغني وصاحب الفراسة، وبرحيله تكون خيمة " لغنا"، في بلاد البيظان، قد فقدت ركيزتها الثانية القوية بعد فقد ركيزتها الأولى برحيل بيبوه ولد الحاج. في سنة 1993م ان كنت لازلت اذكر، أجريت معه حوارا مطولا لمجلة كنا نُصدرها اسمها " الاستفتاء"، وكانت أول ملاحظاته حين قلت له انه شاعر كبير، انه " ليس بشاعر ولكن مغني، وان هناك فرق بين لغنا والشعر". وفي نفس الحوار استعملت كلمة الشعر الحساني فاعاد نفس الملاحظة قائلا: هو غْنَى وليس شعر. كان غيورا على ذلك الفن الراقي الذي اجاده، وبرع فيه حتى تحول الى واحد من عمالقته وأصبح في صف ولد هدار وبنيوك وولد هويدي. لم يكن ذلك لمغني المتحصن خلف قصائده وأبياته، لكنه كان يمتلك فراسة تجعله يعرف أشياء لا يعرفها إلا هو. مرة في حفلة غذاء في الرابوني سنة 2002م وضع قطعة من اللحم في فمه ثم، مباشرة وامام حيرة الجميع، رفع يده وتوقف عن الأكل. حين سألناه بعد ذلك قال لنا: هذا لحم بعير جيفة، غير منحور. كان حين يتذوق الحليب يقول لك هذا حليب ناقة شعلاء او بيضاء او سوداء. هذه هي الفراسة، ولم يبرع فيها إلا اهل الصحراء الذين امتزجوا فيها ومعها وعلمتهم سر الحياة فيها. لكنه لم يكن يريد احدا ان يعرف انه صاحب فراسة، وانه يعلم اشياء لا يعلمها غيره، وكان حذرا في التطرق الى الموضوع، فيقول ملمحا: مساوي الفراسة اكثر من ايجابياتها"، ويقفل الموضوع.  ولم يكن بادي صاحب فراسة وموهبة في لغنا، لكن كان صاحب عزة نفس قلَّ وندُر مثلها. مرة قال لي انه كان يدخن في شبابه، وكان يمتلك " شروط منيجة" راقي، وكانت " طوبته" من النحاس الجيد، وأنه مرة دخَّن في خيمة فقالت امرأة:" اف . ريحة تباكة". رمى بادي " الشروط" و" الطوبة" وخرج من تلك الخيمة بلا رجعة.
في لغنا، حقله الذي برع فيه وإجاده وتفوق فيه، كان دائما يذكر كبار لمغنيين الذين سبقوه مثل ولد الطلبة وبنيوك وولد هويدي وكوكبة العمالقة من فطاحلة لغنا الحساني، لكنه لم يكن يذكرهم فقط ليعجب بهم إنما كان يجتهد ليصبح في مصافهم، ويجلس معهم على القمة، وفعلا فعلها. لحق بهم واصبح واحدا منهم، بل قد يكون أصبح في مقدمتهم. من الان فصاعدا إذا تم ذِكر كِبار لمغنيين البيظان الحسانيين سيتم ذِكر بادي محمد سالم في مقدمتهم.  كان معجبا بهم، وكان يطربه حديثه هو عنهم، وربما كان أجمل سؤال يوجه اليه هو ان يُطلب منه الحديث عن بنيوك او ولد هويدي او سيد احمد للطلبة. في لحظة ما يقول لك بادي: اخي الاكبر اغَنَّى مني، لكنه كان متواضعا." اذا كان اخوه اغَنَّى منه فأي موهبة يمتلكها الأخ، ولماذا لا نكتب عنه."
الكثير من الأماكن، خاصة في تيرس، ستصبح يتيمة بعد أن غادر لمغني، بادي، الذي كان  يخلدها ويمجدها ويزورها. سيصبح " لمبيديع وغردو لعليه" موحشا، وستحزن تلك الأماكن التي كانت تستمع لأغنية الفجر على لسان بادي. الديار والعرسات والأماكن لن يبقى لها ما عدا ترديد:
مارت ان الدهرالغـــدار    ** مايدوم على حال امــال
ذيك دار الطرطـاك ودار   ** أجوير ودار أغزومــال
خاليات ألاماهي نـــــــار   ** ولااتلا فالعلب أنـــــوال
ماتليت اتشوف مطاليــك  ** يا العقل افلعريك افريك
ولاتليت اتشوف افلعريك  ** زين ناس ولاكثرت مال
ولاتلى للمصيف إيليــــق   ** وعاد فيه المشتى محال
الزمن نهاية البشر والأشياء.
blog-sahara.blogspot.com.es
السيد حمدي يحظيه

يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء