كان التاريخ تلك الأيام يستعد لكتابة ملحمة خالدة سوف لن تنساها بٍركة(قلتة) زمور وسوف لن تنساها الجبال المحيطة بها. سيكتب التاريخ مهللا للمجد والعظمة والرجولة والبطولة.
الظروف المحيطة باستعمال سام 6 في ملحمة قلتة زمور
قلنا، سابقا، أن الاسلحة المضادة للطائرات التي كان يمتلك جيش التحرير الشعبي هي بسيطة: ستريلا سام 7، وعربة سام 9 وبعض الرشاشات. هذه الصواريخ المتواضعة أصبح طيران العدو يتأقلم معها ويشوش عليها ويحوّل اتجاهها. يعني أن الجيش المغربي أصبح يعتمد على الطيران لمحاولة التقليل من خسائره على الأرض. لكن المقاتلين الصحراويين كانوا يرون أنه يجب ألاّ يتفوق عليهم أي جيش لا في الجو ولا في الأرض. كان المقاتلون يقولون بزهو: حتى في السماء يجب أن ننتصر عليهم.
في ظل ظروف التفوق الجوي للعدو سوف لن تنجح عملية السيطرة على القلتة بالطريقة التي يريدها القادة الميدانيون والمقاتلون. التفوق الجوي المغربي جعل الجنود المغاربة يغنون أغنيتهم الشعبية: "إلى هزنا الماء. إجي الفرج من السماء." يعني أنه حين يتم اقتحامهم بريا يأتي الفرج من السماء عن طريق الطائرات والقصف. أصبحوا شبه ثائقين ثقة عمياء في طيرانهم الذي كان يرقص في السماء حتى يكاد يلامس شجر الطلح.
لكسر ذلك التوفق، كان لا بد من إدخال سلاح متطور مضاد للطيران إلى ميدان المعركة حتى تنجح ملحمة القلتة. أقرب سلاح لخوض تلك المغامرة الجريئة هو صاروخ سام 6. لكن لا بد من تجهيز ذلك الصاروخ، وتدريب أطقمه تدريبا جيدا حتى يمكن إدخاله إلى الميدان. حاجة المقاتلين الصحراويين لذلك النوع من الصواريخ كانت تتحدى تخوفهم من الفشل في استعماله استعمالا جيدا. عامل الرغبة الجامحة في امتلاك تلك الصواريخ كان أقوى من أي عائق آخر ومن أي حسابات. بعد تجارب سابقة ناجحة مع أسلحة أخرى، أصبحت لدى المقاتلين الصحراويين ثقة في استعمال اي نوع من السلاح يمكن أن يقع في أيديهم. في الواقع، حين نحلل لجوء المقاتلين إلى استعمال ذلك النوع من الصواريخ-سام 6-آنذاك، نجد أنفسنا أمام مغامرة حقيقية: الصواريخ هي دفاعية أصلا، ويجب أن تكون ثابتة حول المدن مثلا. بسبب كُبرها هي صواريخ غير مؤهلة للتنقل بعيدا عن قواعدها، وهي مصممة، أصلا، لنوع من المناخ؛ بكل تأكيد ان مصممي تلك الصواريخ لم يضعوا في حسبانهم الصحراء برياحها وحرارتها وغبارها، ولا أن صواريخهم ستتجه يوما إلى جبال قلتة زمور في تلك الصحراء القاسية التي لا يسكنها إلا أهلها. من هنا لا يمكن أن نتجنب قول ان العملية التي سيتم تجريب فيها صاروخ سام 6 كانت مغامرة. فهذه الصواريخ، المفاجأة-سام 6-، التي سيستعمل المقاتلون الصحراويون في القلتة، سيتم نقلها بِرا على مسافة تزيد عن 600 كلم في طريق غير مبعدة حتى تصل إلى مكان العملية، وستكون بعيدة عن قواعدها، وسيتم نقلها في وضعية غير مريحة نظرا لوعورة الطريق غير المعبدة. كان السؤال المطروح هو: هل يمكن أن ينتقل صاروخ سام إلى قلتة زمور في صحراء مليئة بالصخور والرمال والوديان والمنعرجات، وفي مناخ متقلب مليء بالرياح وحرارته مرتفعة؟ من جهة ثانية كانت أمكانية كشفه، بسبب كبره واردة. يمكن ان يتم كشفه من طرف الاقمار الصناعية أو تدمره الطائرات المعادية قبل أن يتم تركيبه للرماية، ويمكن ان تنقلب عربته بسبب الثقل أو الوديان. ظروف كثيرة محبطة كانت ترافق تلك العلمية السرية، لكن الثقة بالنفس والشجاعة تغلبت على كل تلك المخاوف. كان صاروخ سام 6 هو مفاجأة ملحمة قلتة زمور.
المفاجأة الأولى تتحرك نحو قلتة زمور
رغم كل تلك الأسئلة الكثيرة التي رافقت إمكانية استعمال سام 6 في قلتة زمور، ورغم أن عوامل الفشل كانت حاضرة إلا أن العزيمة والجرأة تفوقتا في الأخير على التردد والتخوف. عشرة أيام، تقريبا، قبل الموعد المحدد-يوم 12 اكتوبر 1981م-تحركت تلك المفاجأة متوجهة إلى قلتة زمور متحدية عراقيل إمكانية الكشف وعراقيل الطريق والمناخ. تحركت ببطء وحذر شديدين حتى لا يُترك مجال للخطأ. لكن، في الواقع، لم تكن هي المفاجأة الوحيدة التي ستظهر في تلك الملحمة. كانت ترافقها مفاجأة أخرى، وكان لا بد من أن تتحرك تلك المفاجآت في وقت واحد بتنسيق جيد وموحد.
من الحدود تحركت تلك البطارية محمولة حتى شاحنة جرار حتى وصلت إلى منطقة الظلوع، غرب منطقة أمكالا، أين قضت هناك يومين أو ثلاثة مموهة تحت الأشجار بطريقة حذرة. كانت تنتظر أن تكتمل فصول التحضيرات الأخرى الشاقة. من منطقة الظلوع تحركت تلك الراجمة متجهة نحو تيرنيت ثم نحو قلتة زمور. يوم 11 اكتوبر، فجرا، وصلت إلى ضواحي القلتة. تم اختيار لها منطقة شلخة (مضيق) اللبن شمال القلتة. جغرافيا، المكان مناسب لأنه يقع بين قلتة زمور والجهة التي ستأتي منها الطائرات، أما التفاؤل فهو إيجابي لإن اسم المكان هو " شلخة اللبن"، والصحراويون، دائما، يتآلفون خيرا باللبن: "اليوم " ما نراو ما هو اللبن"(لن نجد اليوم ما عدا للبن)؛ يعني البركة. فالصحراوي، إذا أراد ان يسافر، يشرب اللبن قبل ان ينطلق، وإذا رأى اللبن في المنام فهو الخير والبركة. وصلت تلك الراجمة المكونة من بطارية تحمل ثلاثة صواريخ إلى المكان المحدد دون ان يتم كشفها. معنى ذلك أن الجزء الأهم من عامل المفاجأة قد تحقق. بدأ الرجال في ذلك الظلام يعملون بجد لتركيب الصواريخ في وضعية رماية. لم يناموا منذ ليلتين، لكن حافز الوصول دون كشف، وحافز رؤية تلك الصواريخ شامخة مستعدة موجهة للسماء كان يُنسيهم التعب والسهر. في الصباح، حين تسطع الشمس سيرون، تحت ضوء سماء القلتة الصافية الساطعة، صواريخهم منتصبة بكبرياء تعانق السماء تنتظر فرائسها التي ستحلق في الجو، وسيحسون بارتياح كبير.
المفاجأة الثانية تشق طريقها في الليل
لم تكن هناك مفاجأة واحدة فقط-سام 6-ستتجه نحو قلتة زمور. على مدى أيام كانت هناك أصوات غير عادية ودخان وأغبرة كثيفة تشق سكون الصحراء وظلمتها متجهة إلى الغرب. تلك الأصوات صادرة عن حركة شاحنات جرارات تنقل آليات كبيرة على ظهورها متجهة إلى وادي شهير هو وادي تيرنيت. هذا الوادي معروف بمساعدته للمقاتلين حين يتعلق الأمر بالتمويه والحماية من الطيران. هو جزء من أرضهم وسقته دماؤهم، وحين يريدون التحضير لبعض المعارك أو التخفي عن الطيران يلجؤون إليه. فيه الكثير من أشجار الطلح الحنونة التي تموه الآليات بشكل جيد، وتظلل المقاتلين وتمدهم بخشب يعطي جمرا دافئا مضادا للبرد ويُعد عليه أحسن شاي في العالم. كانت الشاحنات الجرارة التي تصل إلى الوادي طويلة وعريضة، ورغم استعمال المغرب للأقمار الصناعية الفرنسية والامريكية والإسرائيلية إلا أنه لم يتم كشفها. لو كان تم كشفها من طرف الأقمار الصناعية، كان الطيران سيهاجمها بسهولة. حوالي مئة آلية عسكرية كبيرة ما بين دبابة وناقلة جنود مدرعة وصلت إلى وادي تيرنيت. تفرقت في الوادي في انتظار إعطاء الأمر لها بالتحرك نحو القلتة. تموهت دبابات T-55 في لرجامية، أما فيلق آليات BMP1 فتموه تحت اشجار اوتاد ام السروز في تيرنيت. في الجانب الآخر، وبالضبط في الرخامية تمركزت وحدات "BTR". كانت الطبيعة المتعاطفة مع المقاتلين تساعد في تمويه ذلك العتاد الكبير الذي سيفاجئ العالم والعدو.
لكن كيف ستتحرك كل هذه الآليات من تيرنيت أتجاه القلتة دون أن يتم كشفها؟ مشهد عظيم حقا. وادي تيرنيت يودع تلك الآليات المتجهة لكتابة التاريخ على بعد حوالي 250كلم في قلتة زمور. العدو يمتلك طائرات الكشف، والسماء عامرة بالأقمار الصناعية الامريكية والفرنسية والإسرائيلية التي وُضعت تحت إشرافه. فوق الصحراء الغربية توجد الكثير من الاقمار الصناعية التي تتابع تحركات المقاتلين الصحراويين، وتستطيع أن تبلغ عنها إلى الرباط في عشر دقائق. 100 عربة كبيرة الحجم منها حوالي 40 آلية مجنزرة، ستتحرك نحو القلتة زاحفة، وستحدث الكثير من الهدير والزئير في صمت تلك الصحراء. كانت الوحدات المدرعة التي ستغادر تيرنيت تتكون من: 1-كتيبة من 11 دبابة T-55، يقودها بطل من أبطال الحرب هو المختار الملقب ب " لخروف"؛2-كتيبتين من 20 ناقلة BMP1، وهي المفاجأة، التي ستدخل أول مرة إلى المعركة، ويقودها بطل أشجع من الدروع نفسها، هو بيكا ولد ابا الشيخ ولد اباعلي، الذي سيصبح سنة 1982م عضوا بالمكتب السياسي، وسيستشهد في عملية لمسيد التاريخية في يوم أواخر جويلية 1983؛ 3-فيلق يتكون من 30 من عربات60 BTR المدرعة، ويقودها عيسى ول علي موسى. هذا النوع من العربات المدرعة-BTR-هي ناقلة جنود ذات عجلات قوية وسريعة؛ 30 عربة مدرعة كاسكافيل؛ أي ثلاث سرايا يقودها اللَّلة، واسمه الحقيقي هو حفظلا محمد لحبيب. الكاسكفيل ليست ناقلة جنود، لكن هي عربة قتالية فقط. بالإضافة إلى كل هذه المفاجآت المدرعة كانت هناك راجمات اورغ ستالين للصواريخ وكاسحات الالغام والهاونات.
من تيرنيت تحركت تلك القوة الجسورة والقوية. كان يجب ان تتحرك ليلا، لكن في بعض الأحيان، وإمعانا في التحدي، كانت تسير نهارا. تحركت مدرعات كاسكفيل و60 BTR على عجلاتها بينما حملت الجرارات المدرعات المجنزرة مثل ناقلات BMB1 والدبابات ت 55. حين وصلت المدرعات المجنزرة إلى "خنيك بن تمات"، مرورا برغيوة، نزلت عن الجرارات وبدأت المسير على جنازيرها.
كانت معجزة حقيقة أن تتحرك تلك القوة المدرعة من تيرنيت إلى قلتة زمور بهدير محركاتها وغبارها وغضبها ولا يتم كشفها. لكن لا رجوع إلى الخلف. ستزأر تلك الآليات الفولاذية القوية المخيفة في ليل تلك الصحراء بدون ضوء وبدون توقف حتى تصل إلى النقطة المحددة. كانت تلك القوة العظيمة هي المفاجأة الثانية التي ستكتب التاريخ في قلب قلتة زمور. ستتحرك ببطء حتى لا يتم سماع صوتها. ستزحف بدون ضوء، لكن بإِقدام وشجاعة أيضا وجسارة. يجب أن تصل في الوقت المحدد قبل أن يتم كشفها. كان الرجال الذين يقودنها يقولون: " أقدم، رجوعك مضمون". يسيرون بقوة قصوى متحدين كل تردد أو خوف. يسيرون بشجاعة في الليل، وبالكاد يبصرون ما يوجد أمامهم. هم أسياد تلك المنطقة، ولا أحد يستطيع أن ينافسهم فيها. يتبع.
blog-sahara.blogspot.com.es
السيد حمدي يحظيه
يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء