الغزواني، صاحب أشهر طلقة في التاريخ



كانت طلقة واحدة، بالصدفة، لكن تبعتها حرب من أشهر الحروب في التاريخ. ارتبطت تلك الطلقة الوحيدة، يوم 20 مايو 1973م، بصاحبها الغزواني علي علال، وارتبطت بجيش التحرير الشعبي وبالقضية الصحراوية. سنة

1995م، على هامش المؤتمر الشعبي العام التاسع المنعقد ما بين 16الى 26 اوت، من تلك السنة بمدرسة 12 أكتوبر الوطنية، تصادف أن كنت مع مجموعة من المقالتين في غرفة استقبال، وأثار انتباهي أحد المقاتلين جالسا في الغرفة صامتا لا يتدخل في النقاش، وكلما سمع ما يعجبه يبتسم فقط ويواصل صمته واستماعه. قال لي أحد الرجال انه الغزواني علي علال، صاحب الطلقة الوحيدة التي انطلقت، بدون قصد، في عملية الخنكة التاريخية، والتي كانت بداية لحرب شرسة تدخل فيها العالم كله، تقريبا، للقضاء على صوت طلقة الغزواني. . طلبت منه أن أجري معه لقاءا في صحيفة كانت تصدرها اللجنة الصحراوية للاستفتاء في ذلك الزمن. وافق بعد تردد، لكن اكتشفت أنه كان يتجنب الحديث عن نفسه حينما اسأله عن حدث يخصه هو، وبدل إن يتحدث عن نفسه يتحدث عن الجيش والشعب. نشرت ذلك اللقاء معه، وتم توزيع الجريدة على المشاركين في المؤتمر، فاكتشفه الناس في ذلك اليوم وتعرفوا عليه، واعترافا بتاريخه، انتخبوه كعضو في الأمانة الوطنية. لكن الرجل، وعلى عكس الجميع، رفض المنصب بشدة في صمت، ورغم أنه مارس مهامه كعضو في الأمانة الوطنية وقائد للناحية الأولى، لكنه بقى في عمقه ذلك المقاتل الجد بسيط الذي يرفض المسئولية، ويرفض العضوية في الأمانة الوطنية التي كان الجميع يتقاتل من أجل الفوز بها . لم يؤمن بالمسئولية، وتركها لمن أرادها، وحين سقطت عنه المسئولية بعد ذلك فرح فرحا شديدا، والآن هو مسئول قسم الشهداء في وزارة الدفاع، ويعيش ببساطة شديدة وزهد، ويعترف له الجميع أنه لو أرادا مجدا أو مالا حصل عليه. .

الأقدار تطوح بالغزواني

حين كان الغزواني عالي علال، ابن الصحراء، المزداد في تيرس ما بين 1949 أو 1950م، في السابعة عشر من عمره، بعثه أهله ليتسوق لهم من تندوف، لكنه، بالصدفة، حين كان يناقش مع مجموعة من رفاقه الى أي جيش من جيوش البلدان المجاورة يلتحقون، فضل هو الالتحاق بالجيش الجزائري مأخوذا بعظمة الثورة الجزائرية والجيش الجزائري. حدث ذلك بالصدفة دون علم الأهل، وكان أشبه بمغامرة. كان هذا في شهر نوفمبر 1967م، وكان عمره 17 سنة فقط. تنقل بين تبسة وعنابة، وبعد مظاهرات سنة 1970م في العيون، حين كان الغزواني في مدينة عنابة، التقى بضابط صف جزائري يتكلم الحسانية، وحين عرف أنه صحراوي قال له الجزائري: ” إذا أعطاك الله العمر، سيقوم الصحراويون بثورة في الصحراء لتحريرها من الأسبان.” لم يعد الغزواني يرتاح، وبدأ التفكير في متى يحين موعد الثورة في الصحراء يشغل باله. في مدينة قسنطينة الجزائرية تطوع الغزواني في الفيالق الثلاثة التي كانت ستذهب إلى المشرق العربي لتحارب إلى جانب المصريين والسورين. في اللحظة الأخيرة تم إلغاء ذهاب تلك الفيالق بعد توقف التحضير للحرب ضد إسرائيل. حين لم يذهب إلى الحرب في المشرق، قرر الغزواني أن ينهي خدمته العسكرية ليعود إلى الصحراء ينتظر الثورة التي بدأ يسمع بها، ويحلم بالمشاركة فيها. حين وصل إلى مدينة تندوف، بدأ العمل في شركة حتى التقى بالشهيد محمد فاضل علي حمية( القرارات)، احد الذين كانت تبحث عنهم أسبانيا، ونشأت بينهما صداقة من نوع خاص. الشهيد القرارات فتح عيون الغزواني على الوضع أكثر، وعلى التحضير للكفاح وعلى كل ما يجري في المنطقة. أنضم الغزواني من الأوائل للخلايا السرية التي كانت تنشط على الحدود وفي تندوف، وبدأ ينتظر. في الأخير، أخبره محمد فاضل القرارات أن قرار الالتحاق بالجبل للقتال أصبح وشيكا. ترك الغزواني الشركة والعمل، وبقى في حالة انتظار دائم وتأهب. في يوم 18 ابريل 1973م، بعد انعقاد الندوات التحضرية للمؤتمر قبل المؤتمر التأسيسي للجبهة بحوالي ثلاثة أسابيع، كان الغزواني والشهيد القرارات والشهيد الولي ومحمد لمين البوهالي يركبون سيارة هذا الأخير ويتوجهون إلى سن لحمادة. هناك نزل القرارات والغزواني ليسجل التاريخ لهما أنهما كانا أول جنديين في صفوف جيش التحرير الشعبي. بدأ الاثنان، معا، يجمعان الأسلحة التي سيتم بها تنفيذ العملية الأولى.. في ذلك المكان المسمى سن لحمادة، تركهما الولي ومحمد لمين البوهالي، وعادا إلى ضواحي تندوف في مهمة أخرى. كان الغزواني هو أول واحد خرج إلى الجبل ليقاتل، وليكون هو نواة الجيش الصحراوي، الذي سيكون، ثلاث سنوات بعد ذلك، واحدا من أقوى جيوش المنطقة برمتها. جمع الغزواني والقرارات عدة بنادق، وبعد الأتصال برفاق آخرين التحقوا بهما منهم الشهيد محمد لسياد، تم الاتفاق على أن يلتحق الجميع بحاسي بوجنيبة قرب الزاك. هناك وجد الغزواني ثلاثة أو أربعة أشخاص ينتظرون. في أيام وصل العدد إلى سبعة عشر مقاتلا فقط؛ عدد كافي حسب تفكير ذلك الزمن كي يؤسس النواة الأولى للجيش. كانت المجموعة تنتظر أن ينتهي المؤتمر التأسيسي الذي انعقد يوم 10 مايو 1973م، في الزويرات لتنفذ أول عملية عسكرية تكون إيذانا ببداية الكفاح المسلح. كان الرأي الغالب متفقا، تقريبا، على أن تكون العملية ضد بعض الدوريات الأسبانية المتنقلة التي كانت تجوب الحدود، وأن يتم تحاشي الدوريات التي فيها صحراويين، ولا يتم توريط أي من الدول المجاورة ولا يتم الانسحاب إلى أراضيها.

العملية بالصدفة، والطلقة بالصدفة أيضا

لكن للأقدار كلمة أخرى هي الفيصل في كل ما يجري. حين كان الولي وعبدي ولد بوبوط ذاهبان يبحثان عن الماء، ويراقبان مركز الخنكة الذي تتواجد فيه قوة صغيرة أسبانية، حصل ما لم يكن في الحسبان. حين كانا عائدين بعد جلب الماء ومراقبة المركز، أُلْقِيَّ عليهما القبض من طرف دورية أسبانية على الجِمال قادمة من مركز الخنكة كانت تتبع اثرهما منذ وصولهما إلى البئر. حين علمت المجموعة عن طريق إبراهيم الخليل، صاحب المنظار، أن الرفيقين أُلْقِيَّ عليهما القبض، حدث بعض التخوف. كان الوضع يستدعي أن يتم الإقدام على عمل ما – ولو ارتجالي- لإنقاذ الرفيقين ولإنقاذ الثورة في النهاية، خاصة أن أحد الأسيرين هو الولي، الرجل المهم في الثورة. قرر قائد المجموعة إبراهيم غالي، بعد التشاور مع مجموعته، أن يبعث خمسة أفراد لمحاولة إنقاذ الرفيقين. ذهب هو في المقدمة رغم أن رجله تؤلمه، ومعه الغزواني، والبشير السالك جدو، ومحمد لمتين، وبراهيم الخليل ولد الراحل. كانوا مسلحين بأسلحة غير مضمونة الجاهزية، ولا أحد منهم يعرف هل تستطيع أن تُنجز بها عملية أم لا. كان الوقت عصرا، وقبل أن يصلوا إلى حاسي الخنكة، أين يوجد مركز الحراسة الأسباني، التقوا مع عائلة صحراوية دلتهم على المركز واعطتهم تفاصيله، وعدد الغرف، وعدد الحراس، وأين هي غرفة السجن، ورسمت لهم مخططا - “كروكي”- دقيقا ومفصلا للمركز. مع حلول الظلام تم اقتحام المركز: يقوم الغزواني والبشير السالك باقتحام إحدى الغرف وغرفة السجن، ويقوم إبراهيم غالي وإبراهيم الخليل ومحمد لمتين باقتحام الغرفة الأخرى. فأجأهم كلب بنباح شرس، لكن الشهيد محمد لمتين تعامل معه وأوقف نباحه. تمت العملية بسهولة وبدون قتال ولا إراقة دماء. تم إلقاء القبض على الحراس، وحين دخل الغزواني والبشير إلى الغرفة وجدا فيها ثلاثة أسلحة وشمعتين. تلك الأسلحة الثلاثة كانت هي أول أسلحة يغنمها جيش التحرير الشعبي الصحراوي. وحتى يُفتح السجن، قام الغزواني بسرعة بضرب الباب بمؤخرة البندقية التي كانت بحوزته فأنفتح وتزامن مع ذلك إطلاق طلقة في السماء بفعل قوة الضربة. تم تحرير الولي وولد بوبوط، وغنمْ خمسة أسلحة وستة جمال، وتم اعتبار تلك العملية هي فاتحة حرب التحرير، والكفاح المسلح ضد أسبانيا.

الغزواني الذي جاء من أقصى الشرق الجزائري إلى الصحراء ينتظر متى يعلن الصحرويون الثورة، كان له موعدا مع القدر ومع التاريخ. هو أول جندي تطوع ليجمع السلاح ويقاتل، وهو من بين الخمسة الذين استولوا على موقع الخنكة، ومن بين الذين غنموا البنادق الخمسة الأولى في تاريخ الجيش الصحراوي، وهو الذي فتح السجن عن الولي، الذي سيصبح سنة وثلاثة أشهر نصف بعد ذلك أمينا عاما الجبهة.


 

لكن أكثر شهرة من كل هذا وذلك، هو تلك الطلقة التي انطلقت ذلك اليوم من بندقيته بالصدفة المحضة. كانت رمزية تلك الطلقة إن ذلك الكفاح المسلح لا بد له من الرصاص، ولو أن العملية تمت بدون تلك الرصاصة، ما كان يمكن أن يتم اعتبارها عملية عسكرية يمكن أن يؤرخ لها أنها هي فاتحة للكفاح المسلح الذي كان الصحراويون ينتظرون. تلك الطلقة فتحت الباب أمام حرب شرسة في الصحراء دامت حوالي خمسة عشر سنة قدَّم فيها الصحراويون خيرة أبنائهم. فثلاثة من الخمسة الذين استولوا على الموقع ( محمد لمتين، إبراهيم الخليل، البشير السالك جدو) استشهدوا، والولي الذي تم إنقاذه استشهد، والحرب جعلت الجيش الصحراوي، الذي كان الغزواني أول جندي فيه، يصبح واحدا من أقوى الجيوش في العالم ويدخل التاريخ.

تلك الطلقة كانت هي الرصاصة الرابعة المحشوة في مخزن بندقية “رباعية” كان يحملها الغزواني ذلك اليوم، لكن هي أصلا للشهيد إبراهيم ولد عبد الرحمان، أتى بها من عند أهله، والذي كان يشغل يوم العملية، بالضبط، منصب عضو اللجنة التنفيذية في مكان محمد لمين ولد البوهالي الذي لم تسمح له الظروف بالالتحاق بمجموعة ال(17) الأولى.

بعد تلك العملية بشهور شغل الغزواني اول مهمة عسكرية له وهي نائب قائد إحدى الوحدات الأولى في الجيش الصحراوي وبقى يقاتل حتى ارتقى إلى منصب قائد ناحية، ثم إلى مدير مركزي لقسم الشهداء بوزارة الدفاع الوطني الصحراوي.

بقلم: السيد حمدي يحظيه


يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء