وداعا علال ولد الداف، شاعر التوحيد


 



اذا كانت منطقة زمور ووادي الساقية الحمراء، قد اشتهرت بمدارسها الدينية التي أسسها ورعاها وحرص عليها أبناء العلامة والشيخ الكبير بابيه الشيخ، فإن المدارس الشعرية الحسانية والعربية كانت موجودة أيضا.

 كان شعراء زمور كثيرون، لكن لم يكن الناس يعتنون بالتدوين ولا بالكتابة، ولم يكونوا يعرفون الورق والقلم، والعلم الكثير الذي برعوا فيه، وملأوا به صدورهم، خاصة العلوم الدينية والفقه، حصلوا عليه وحفظوه شفهيا أو كتبوه على لوح مصنوع من الخشب، وكانت مدرستهم هي الخيمة أو العراء أو لمسيد.

من الذين بدعوا في "لغنا" من حفدة مول الفوار، حفيد بابيه الشيخ، نجد المرحوم علال ولد الداف ولد الديد، اما والدته فهي كلتوم بنت أحمد، اما زوجته مسادة، واسمها الحقيقي هو عزيزة، فهي منت حلة ولد إسماعيل، من عائلة معروفة بالكرم والفقه. يعتبر علال شخصية زاهدة في الدنيا، له فلسفة خاصة تعنى بالحياة وبمقاومة الصعاب وبالابتعاد عن الأضواء والشهرة والتركيز على "لغنا" الروحي والديني حتى أصبح هو ملكه. هو شاعر ترك الدنيا بكل ما فيها، وظل يحن الى البادية والصحراء، ويحن الى العيش فيها والاستمتاع بما توفره للنفس من السكينة ومن متعة في التأمل والتعمق في عظمة الله. وبالإضافة الى انه شاعر متمكن، هو شخص ملم بالفقه والتاريخ وكل ما له علاقة بثقافة اهل الصحراء. هو سليل أسرة من الشعراء التي تنتمي بدورها الى عائلة أكبر من الشعراء ومن الحفظة والمثقفين. توحد علال بحياة اجداده فعاش في الصحراء على طريقة اوائله حاملا كتاب القرآن واللوح. حفظ القرآن والشعر والفقه، ونبغ في علوم الاوائل وكل ما تركوا من تراث. ورغم طول باعه في القرآن والفقه، إلا أنه اشتهر بقرض الشعر(لغنا)، خاصة شعر الحكمة والتوحيد، كوسيلة توعية ونصح بالدين وبكتاب الله، ومن خلاله شاع أمره وأصبح أمير عصره في شعر التوحيد. لولا زهده وتوحده بالحكمة واكتفائه بشعر التوحيد فقط، لأصبح أشعر الناس وأشهر شعراء الحسانية قاطبة. عاش علال ولد الداف ولد الديد بين الساقية الحمراء وزمور، متنقلا في تلك البوادي الرائعة، فامتلك شاعرية ورهافة كلمة وسعة خيال لم يمتلكها إلا القلة. كان مُقلا لكن قصيدة/ طلعة واحدة منه هي أحسن واجود من ديوان كامل، فلا يكاد يخرج بقصيدة على الناس حتى تتلقفها الأفواه ويستمع إليها الناس ويتناقلونها ويحفظونها. كان يصمت طويلا متأملا، ثم في لحظة شعر خالصة، ينزل عليه الالهام فتخرج القصيدة كاملة متكاملة، منسوجة نسيجا عجيبا كأنما قضى السنوات ينسجها كلمة، كلمة حتى استوت على ماهي عليه. وبنفس القوة التي يلقي بها تلك القصيدة تسكن في ذاكرات الناس. في سنة 1972م، قبل الغزو، وقبل أن تحدث نكبة اللجوء والهجرة إلى المخيمات، رأى علال ولد الداف، في شبه حدس عجيب، ما سيحدث للشعب الصحراوي من محن ومن تسابق إلى البحث عن وسائل الراحة في اللجوء، فنظم رائعته: "يا الدلال" التي عكس فيها كل ما سيحدث للشعب الصحراوي في اللجوء مستقبلا. ورغم أنها من قصائد التوحيد الرائعة، بل الأولى في " لغنا الحساني" في هذا الغرض، إلا أنها عكست صورة أخرى دنيوية سيقف عليها الصحراويون في اللجوء. يقول المرحوم علال ولد الداف:    

يالدلال انت بعد اغريب  اوطان ونازل دار اغرور

تطلب تسريح اباش اتغيب   وادور العمرك بسبور

يا الدلال امالك تجار           بالعجنه والطوب ولحجار

والجير وسيمو والمسمار      وامزكنن صور امن الياجور

وادير الزليج اعتبار           فاش اعيون العباد اتحور

والرخام انيمش وازهار      وتساريح الخيط المنشور

هذا باش اتم الجدار          ياللي متمتع بالقصور

كل اوقيت اتناديلك دار   فالقبور اعليها مقهور

مكبوظ اقياسك والمجهار   بين ايديك وزربك مجرور

والموت اطوفك كل انهار   اعلى شفير اشبر مجهور

وانت تتعبد بالمزمار        واتجهز نفسك للفوجور

واتسمن جسدك للنار       والديدان وظلمة لقبور

تلعب بيك افكار العقار   والكنز الخافي والمشهور

والكراط اعلى كل اشوار   والبابور افاتن لبحور

والوته تخدم والطيار    والى ما حصلتو محكور

هذا ماهو نافع فانهار   ارحيلك عن لحباب احصور

يمتحنك نكير ومنكار     شنهو حالك يا مغرور

يالدلال انت بعد اغريب

يالدلال اللي فات اعطاك          مول الملك الحي الفكاك

حمدو لو راهو حمدك ذاك         للمولى ماهو حرث اغور

لاتغفل عن دينك واياك          رزقك فيد الحي الغفور

مولانا عند امنين انشاك         قسم رزقك دور اورى دور

واضمن لك عنو ما ينساك            لو عت افضيقات القبور

وكل بيك املوكو واكفاك                خيرو واجعلك بصرك نور

وانعت لك لمجابد وانهاك               عن مجبد مكروه ومنكور

وانت تتمنى ذاك وذاك                  ادورالمال اتم اصحور

اعليك الين اعود اوراك                اشهود انو كان اكركور

احفول اتواسيه التراك                  ساعت موتك كارب مكسور

يالدلال انت بعد اغريب

 

يالدلال اثرك ما تعلم                    بالبيت الكدامك مظلم

يبلك ماهي  فيه ولغنم                   تسول عنهم طور ابطور

تسول عن كم من درهم               منفوق افيحات الفخور

فاش انفقت اللي كنت اتلم             واعمالك شنهي يا مغرور

شنهو صومك واصلاتك كم            ضيعت امن اديان البرور

وازكاتك شنهي واعلى كم             ياغفيل اتكسم لعشور

فوت افعمرك كم افكم                 تمشي للدبداب المنكور

مستطرب بيه وذاك اليم              دليل اعلى نوم البكور

اماسي عنك مولى هم                 كل انهار اتشيد لكصور

واتزيد العمال ولخدم                  واتعمر فالبر ولبحور

مانك عالم عن ذا عدم                 يوم ارتحالك للقبور

يوكودى ذاك ويكسم                   هذا ينباع وذا منحور

ماتجبر منو مليت فم                  واللي دونو ماهو مجبور

يالدلال انت بعد اغريب              اوطان ونازل دار اغرور

تطلب تسريح اباش اتغيب            وادور العمرك بسبور

حدث الذي توقع علال. بدأ الناس في المخيمات وفي اللجوء يبنون ويشيدون ويسافرون ويبحثون عن الرفاهية والدنيا، ويتسابقون في البناء والزليج والأسوار والبنايات الرائعة. حين حدث هذا مثلما توقع علال، استعاد الناس قصيدته الرائعة التي قالها سنة 1972م، التي عكست حالهم عشرين سنة بعد ذلك، واستخرجوها من أرشيفها وأعادوا اكتشافها.  كانوا يحسون أن تلك القصيدة، التي سبقت عصرها بكثير، ضربتهم مرتين في الصميم. المرة الأولى يقول لهم فيها بمؤاربة لا يقدر عليها إلا هو، أنهم في سيذهبون إلى اللجوء وسيتنافسون على البناء والرفاهية في أرض هي ليست أرضهم، والمرة الثانية يقول لهم إن الدنيا كلها لا تستحق كل هذا التنافس على الأشياء الزائلة، وعليهم أن يبنوا في الدار الباقية، دار الخلود.

القصيدة كانت قطعة شعرية لن تتكرر، ومن الصعب أن يستطيع أحد ابداع مثلها في الجودة والعمق والنسيج الشعري المدهش. وأنت تقرأها تحس إنك لا تقرأها، وأنت تستمع إليها تحس أنك لا تستمع إليها. تحس إنها تنساب في تلقائية سلسة، مثل انسياب مجرى مائي رقراق فلا تعترضك مطبات لغوية، ولا تشعر أن هناك نوع من استعمال القوة لإدخال كلمات للضرورة الشعرية. تلك القصيدة أثرت كثيرا في "لغنا" الحساني، وجعلته يقف لحظة تأمل لإعادة قراءتها وحفظها. لقد هزت المشاعر العاطفية والشعرية عند الجميع فتم إطلاق عليها اسم: رائعة علال ولد الداف. وليست هذه المقطوعة المذكورة يتيمة او وحيدة فهناك روائع اخرى منها ما أطلق عليه هو اسم الهيلالة. هذه القصيدة فيها ما يقال. ورثها عن والده، وحفظها منذ الصغر، وهي نوع من المديح الشعري، وظل يرددها حتى وفاه الأجل. يقول فيها:

انت يا الهيلالة طربي  وانت دنيا وانت مالي

وانتي مكطوعة من قلبي   وانت بيك الله العالي

 الهيلالة ماني ناسي   دهري كامل بيك الا لي

كد ما هلل الموصابي   خليل وسيدنا عالي

 تاهيلالة حد نصرها  ينصر قدرو عند العالي

يوم المحشر مايحكرها   تفوز بها الرجال.

وهي طويلة وجميلة. ومن أرشيفه الخاص تخرج قطعة اخرى على منوال الأولى، تحتفظ بصفاتها وجمالياتها، خاصة السلاسة اللغوية والنسيج الشعري الذي يغري القارئ بمواصلة قراءتها. احتفظت القصيدة التالية بنفس جودة الأولى من حيث الشاعرية والتأثير على النفس. هي قصيدة في التوحيد وطلب التوبة التي يبقى بابها دائما مفتوحا. يقول علال:

 يانا عاكب طفح الشباب   والغفلة واتقوقي لعمر

 توب لربك واكسب جواب   تحتاجو ليالي لقبر

يانا توب لربك محد       باب التوبة مافات انسد

وانتشرت صحوفك واكعد   ميزانك وابديت اتحضر

الكنت اتراعي فيه إشد        ماعندك عن وجهو مفر

 أجمع زادك سابك يشتد    لمر اعليك اعليك السفر

مانك جابر نجدة من حد   يوم الحساب انهار احمر

انهار الوحشة والنكد       والهول وخسوف البصر

ماهو حد اعلى حد إرد      كل امنادم عركو يكطر

كابظ بيديه اكتاب اسود      مفروظ اعليه انو ينظر

فقوالو وافعالو بالعد        حرف ابحرف اسطر، بسطر

يكراهم بالنصبة والمد         فالسجل الماه مزور

 تتبراه المنت ولولد   يتبرا والزوجة تنكر

 والمال اللي كان إبدد   مايجبر منو كد اظفر

ذاك انهار اصعيب اتفكد   روحك سابك موفي لعمر

يبقى علال محافظا على نفس المنوال الفلسفي من الروائع التي تتناول التوحيد، وطلب الله والابتهال، مثلما في قصيدته التي يبتهل فيها والتي عنوانها يامولانا:

 

 يامولان خيرك لكــــــثير   دفكلي منو بحر امــلان

فالبر الين ايعود الخــــير  ايغطي لكـــدى والوديان

إلى أن يقول:

 الظاية تدفـــــــــــك من لغدير   واشكن كل اشــــــــك املان

والتيلماس اللي نختــــــــــــير   انشـــــــــاود تنبع والحسيان

 من مجار املانا والــــــــــبير  مايوكـف عندو شي عطشان

 انت بعد اكريم وقـــــــــــــدير   واحنين ومعروف بالاحسان

مجيب الدعاء للمعســــــــــير      والمـــــــــيسرومكون لكوان

وانت هو مــــــــــــول التسير      المليــــــــــــــك الحي الديان

 وانا عبد اضـــــــــعيف وفقير      كابظ تعبة باب الســـــــلطان

 نستسق من بيبان الخــــــــــير      اصــــــلاح الدارين والايمان

خايف من نكير ومنكــــــــــير   والغفـــــــلة والعاب الشيطان

 بيا من مزلت ايشـــــــــــيشير  الين ادركـــــــت امن العيمان

 الخمسين وعاد الــــــــــــنذير   طايب كيف اطــــياب الفدان

 يالله اموجهـــــــــــــلك لبشـير  محمد شفـــــــــــــيع العربان

 اجعلني فالــــــــــــــدنيا وزير  لهل الخـــير أولاي الرحمان

رحل علال ولد الداف تاركا فراغا كبيرا في ذاكرة " لغنا"، خاصة غرض التوحيد، وتاركا وراءه الكثير من القصائد التي استطابها الناس وحفظوها وغنوها، فرحمة الله عليه رحمة واسعة.

Blog-sahara.blogspot.com.es

السيد حمدي يحظيه


يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء