الحلقة الثانية: إسقاط طائرة قائد الطيران الموريتاني، كادير، ونجاته بفعل الحظ

 


الكثير من الصحراويين أو غالبيتهم لا يعلمون أن جيشهم، خلال حرب التحرير الأولى، ضد المغرب وموريتانيا، القى القبض على قائد الطيران المغربي في الصحراء الغربية، واسقط طائرة قائد الطيران الموريتاني الذي انقذه الحظ فقط من الوقوع أسيرا. هنا سنتطرق إلى القصتين بالتفاصيل. 

ولا هذه أيضا 

بنهاية سنة 1976م، أصبحت أسماء الطيارين الموريتانيين معروفة لدى الجهات الأمنية الصحراوية، ولدى المقاتلين الصحراويين. حسب تدوينات الناحية الثالثة للعلميات العسكرية المذكورة، نعثر على الشهادة التالية:" توصلنا الى المعلومات الكافية عن الطيارين الموريتانيين. هناك حوالي سبعة طيارين موريتانيين يشاركون في الحرب، ثلاثة منهم، حسب الأسرى الموريتانيين سود، وثلاثة بيظان، لكن أشهرهم هو كادير، وهناك إثنين تدربا في شرشال في الجزائر(1).

محاولة قنص الطائرات الموريتانية كان دائما مرتبطا باصطياد كادير وإسقاط طائرته. الطيارون الآخرون يجب استهدافهم أيضا، لكن كادير هدف مهم وثمين. هو أكثرهم نشاطا، وهو أكثرهم افتخار بإنجازات أغلبها أساطير غير واقعية.  

بتاريخ 28 ديسمبر 1976م كانت هناك معركة شرسة تدور رحاها شمال بير ام كرين، غير بعيد عن المعازيات وكارة فوق كارة، بين قوات موريتانية محاصرة ووحدات متحركة من جيش التحرير الشعبي الصحراوي. كانت في ميدان تلك المعركة ثلاثة قطع دخلت حديثا الأرض للقتال من صواريخ ستريلا 2 المضاد للطيران، وكان رماتها ينظرون إلى السماء لإنه، في تقديرهم، إذا لم يتدخل الطيران ذلك اليوم ستُحسم المعركة بالقضاء على القوة الموريتانية المحاصرة في اليوم الموالي. يوم   29 ديسمبر، أول النهار، كان الجو صافيا، وفجأة صرخ أحد المقاتلين:" الطيِّيرة، الطيِّيرة(تصغير لكلمة الطائرة)". وفجأة شاهدوا ذلك الصاروخ الصغير يمخر الجو الصافي ويصيب الطائرة في جناحها الأيسر. تصاعد منها الدخان واللهب وتأرجحت في الجو قليلا، ثم هوت في منطقة كارة فوق كارة. كانت طائرة ديفيندر، بريطانية الصنع، تدخل للمعركة أول مرة، ومات ركابها الذين يُعتقد انهم ثلاثة. وسائل التصنت الصحراوية التقطت ثلاثة أسماء هي الطيار سيدي محمد ول هيين، شخص آخر اسمه علي ول نافع، والثالث اسمه جغرار. كان الطيار سيدي محمد ول هيين بكل تأكيد بين الحطام، وحين بحثوا عن سيرته وجدوا أنه أكمل دراسة الطيران في شرشال في الجزائر. يعني،  انقلب ول هيين بطريقة لا أخلاقية على حلفاء الذين دربوه على الطيران، بحجة أنه لبى نداء وطنه، لكن المشكلة أن وطنه، وقتئذ، كان يخوض حربا ظالمة. النتيجة أن الطائرة التي سقطت ذلك اليوم لم تكن طائرة كادير، والطيار القتيل ليس هو كادير. 

أخيرا، سقطت طائرة كادير

لكن ما كل مرة تَسلم الجرة. بعد عملية الزويرات في فاتح مايو 1977م، تدخلت القوات المغربية في الأراضي الموريتانية ورابطت حول تلك المدينة "لحمايتها". لكن تواجد تلك القوات أغضب الجيش الصحراوي أكثر، وحوّل الزويرات ومحيطها إلى هدف لعملياته وإغاراته المركّزة المتتالية. تم الهجوم عليها أيام 4 و 16 جويلية 1977م، كما تمت مهاجمتها هجوما آخر عنيف يوم  19غشت 1977م. هنا سيهمنا أكثر الهجوم الذي وقع يوم السبت 16 جويلية 1977م، وهو اليوم الذي تم فيه، أخيرا، اصطياد طائرة قائد القوات الجوية الموريتانية، المدعو كادير، والذي كان محل مطاردة منذ يونيو 1976م، لأنه الوحيد الذي ادعى مشاركته في قتل الولي. ولم يكن غضب الصحراويين ضد كادير لهذا السبب فقط، بل أن هناك معلومات تقول أنه هو مهندس التدخل الفرنسي في الصحراء الغربية، وأنه اقنع الفرنسيين والمغاربة بفكرة أن الجيش الصحراوي لا يمكن   القضاء عليه بالمعارك على الأرض. يوم 16 جويلية، صباحا، تمت مهاجمة الزويرات، وفي الطلقات الأولى تم مقتل قائد القوة الموريتانية السندري الدِّي امادو صمبا، فانسحبت. بعد منتصف النهار انسحب الجيش الصحراوي نحو كثبان وأحجار تورين الإستراتيجية التي تعيق المطاردة، وتسمح بالتخفي عن الطيران. قرر المهاجِمون البقاء في منطقة تورين إلى الليل لاستغلال الظلام والعودة إلى القواعد في ايرني. قبل العصر بقليل، ساءت الأحوال الجوية، وعلى الساعة الخامسة وأربعين دقيقة، حين كانت الوحدات متخفية في الوادي، أطلق الحارس الإنذار: الطائرة، الطائرة. كانت فعلا هناك طائرة تحلق ببطء وعلى ارتفاع منخفض، ويبدو أن سوء الأحوال الجوية أرغم قبطانها على التحليق منخفضا كي يرى القوة الصحراوية. أطلقت عليها الرشاشات النيران. بين نيران الرصاص الحارق انطلق صاروخ ستريلا نحوها كشهاب ملتهب. في نفس اللحظة التي انطلق فيها الصاروخ والرصاص، ستشعر قبطان الطائرة الخطر فارتفع محلقا محاولة الإنسحاب. لكن مناورته كانت متأخرة؛ أصيبت الطائرة واشتعلت النيران في منتصفها، وسقطت منها كتلة ملتهبة لكنها، رغم ذلك، استطاعت الابتعاد لتسقط وراء الكثبان. تحركت السيارات في أثرها بسرعة والجميع ينتظر أن يقفز السائق ليلتقطوه وينسحبوا. وصلت اولى السيارات إلى الكتلة التي سقطت من الطائرة. بالقرب منها كانت هناك اشلاء جثة شخص. اعتقدوا أنه القبطان، ثم واصلوا السير اتجاه الطائرة.  تحولت الطائرة إلى لهب، وفي ثوان انفجرت. تحلقت حولها سيارات المقاتلين، لكن لم يجدوا بداخلها أي شخص متفحم. فتشوها، لكنهم، كلهم، اعتقدوا أن الاشلاء التي وجدوا بعيدا عن الطائرة هي أشلاء القبطان، وأنه كان وحيدا. لم يفعلوا أكثر من حمْل بعض اجزائها عليها بعض الأرقام لمعرفة من أي نوع من الطائرات ثم كتبوا عليها " لا استقرار لا سلام قبل العودة والاستقلال التام" وانسحبوا. كانت طائرة ديفيندر بريطانية الصنع، مزودة برشاشين.  

طائرة كادير، لكنه نجا

يوم بعد ذلك ستأتي أخبار من مدينة الزويرات تقول أن تلك الطائرة هي فعلا طائرة كادير، وأنه قفز منها ونجا، وأنه كان برفقته طيار آخر. شيء لا يصدقه العقل فعلا. لم يصدق أولئك المقاتلون الذين تحلقوا حول حطام تلك الطائرة وفتشوها وحملوا قطعة منها وكتبوا عليها أن قائد الطائرة ومساعده نجيا. لا أحد رآهما يقفزان بالمظلة، ولم يموتا محترقان في مقصورة القيادة ولا أحد انتبه لأثارهما فوق الرمال. صحيح، وقت سقوط الطائرة كانت رياح " السافي" في الجو، لكن ما حدث كان أشبه بمعجزة. وتقول بقية الأخبار المتواترة أن الاشلاء التي عثروا عليها هي لجندي اسمه

أحمد ولد محمد عبد الله، كان من ضمن طقم الطائرة. وتحدثت موريتانيا كلها عن الحظ الذي جعل قائد قوتها الجوية، كادير، ينجو من الوقوع في يد المقاتلين الصحراويين الذين كانوا يبحثون عنه. 

نهاية كادير

مثلما كانت نهاية الحرب محزنة في موريتانيا، كانت نهاية كادير، أيضا، محزنة وتراجيدية. رغم نهاية الحرب، ونجاة كادير أكثر من مرة من الوقوع في يد المقاتلين الصحراويين، إلا أنه لم يتب ولم يستنطق ضميره، ولم ينسحب. تحوّل إلى شخص خطير يحمل معه حقدا دفينا على الصحراويين والموريتانيين الشرفاء أينما ذهب، وراح يشعل النار هنا وهناك مستغلا صداقته مع المغرب وفرنسا. في سنة 1981م، سيقود كادير، بتنسيق مع المغرب، انقلابا فاشلا على الرئيس ولد هيدالة، وسيقع في الأسر رفقة ضباط آخرين أبرزهم احمد سالم ولد سيدي، وانيانك سيك، وسيحكم عليهم بالإعدام. الحكم عليهم بالإعدام أثار حفيظة الغرب، خاصة فرنسا والولايات المتحدة اللتين طلبتا العفو عنهم، وراحتا، رفقة المغرب، تحرضان على الدولة الموريتانية. حين نتصفح لائحة الذين أعدموا نجد أنهم كلهم شاركوا بحماس في الحرب ضد الصحراويين، وأنهم كانوا أهدافا مطلوبة للجيش الصحراوي. رغم مطالبة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والغرب، كله، بالعفو عنهم إلا أن حكم الإعدام أو الأسر الذي كان سينُفذ فيهم في حرب الصحراء الغربية نُفذ فيهم من طرف الموريتانيين الشرفاء. بعد تنفيذ حكم الإعدام فيهم، خاصة إعدام قائدهم كادير، ستروج تلك الأيام إشاعة في موريتانيا تقول أن الإعدام نُفذ بناء على رغبة الصحراويين الذين كانوا يطالبون برؤوس تلك المجموعة في الحرب. هي ربما لعنة لاحقت الذين شاركوا في حرب الصحراء الغربية الظالمة ورفضوا أن يتراجعوا أو يتوبوا. حوالي 16 نقيبا أو ضابطا وخمسة طيارين من الذين شاركوا في حرب الصحراء الغربية ماتوا أو أعدموا أو سجنوا. الطيارون الخمسة الذين شاركوا في قصف الصحراويين، ماتوا في تحطم طائراتهم وتركوا وراءهم تاريخا غير مشرف لأنهم شاركوا في الظلم*. 

-*- معلومات المقال من كتيبات تدوين النواحي العسكرية الصحراوية المقدمة في معرض المسابقة العسكرية السادسة. 

الحلقة القادمة: القبض على قائد الطيران المغربي في الصحراء الغربية، علي نجاب.

blog-sahara.blogspot.com.es 

السيد حمدي يحظيه 


يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء