عملية نواقشوط الثانية المبهرة(الحلقة الأولى)

 



ظروف العملية ميدانيا

هي عملية غريبة جدا. على مستوى هيئة الأركان الصحراوية عارضها البعض ووافق عليها قلة، لكن هؤلاء الذين وافقوا عليها، كانوا غير متأكدين من تبرير موافقتهم عليها. في الميدان، كانت الاقمار الصناعية تراقب تحركات المقاتلين الصحراويين، وكانت الطائرات المغربية والموريتانية والفرنسية تحلق في السماء باستمرار، وكانت الحدود الموريتانية تحت سيطرة الدوريات الموريتانية والمغربية. كان شبه مستحيل أن تقطع قوة من حوالي ثلاثين آلية 800 كلم في الأراضي الموريتانية ولا يتم كشفها والقضاء عليها. المعجزة في هذه العملية أنه تم تنفيذها وعاد منفذوها إلى قواعدهم دون ابسط خسارة ما عدا ثلاثة جُرحوا جروحا طفيفة.

التحضير للعملية: 

بتكتم تام، توجهت ست وحدات من الناحية الثالثة إلى منطقة مهيريز لتحضير عملية مجهولة وسرية. في البداية، لم يتم إشعار المقاتلين بالمهمة التي تنتظرهم، لكن من برنامج التدريب والتحضير تأكدوا إنهم سيذهبون في مهمة خطيرة، لكن نواقشوط، كمسرح لتلك المهمة الخطيرة، كانت، ربما، مستبعدة من تفكير الكثيرين في البداية بسبب تعقيدات الهجوم عليها خاصة البعد المسافاتي ومراقبة الأقمار الصناعية والطائرات. قد تكون العيون أو السمارة كانت اقرب للتفكير كميدان للمعركة من نواقشوط. من ضمن أولئك الرجال الذين كانوا يتواجدون في ذلك المكان للقيام بتلك المغامرة العسكرية، كانت هناك كتيبة كاملة من الذين شاركوا في عملية نواقشوط الأولى، وكانت هناك كتائب كاملة، أيضا، من الذين احتلوا الزويرات منذ شهر، وكتبوا في سجلّهم انجح اغارة في التاريخ.

بعد 26 يوما من التدريب تم اختيار حوالي 30 سيارة لاندروفير، 4 لكل كتيبة، وتم تجهيزها برشاشات 12,7 دوشكا ومدافع ب10، ب 11، وقطع من سام 7(ستريلا)  وقطعة وحيدة جديدة على شاحنة مرسيديس جديدة من رشاش 14,5. كانت التغذية الوحيدة التي سيتم حملها في تلك الرحلة/ المغامرة هي لحم الإبل المجفف والماء والشاي، وكل زمرة تتناول تغذيتها في السيارة وهي تسير دون أن تتوقف. حسب الخطة، ستتحرك القوة إلى غابة " لصكية"، ويتم مليء خزانات السيارات كلها بالوقود، وكل سيارة تحمل ملء خزان، ويتم ملء براميل الماء، ثم يتم إرجاع صهاريج الماء والوقود لانها أهداف يتم كشفها بسهولة، ويتم استهدافها من طرف الطيران بسهولة أيضا. الكل كان يفكر في انجاح تلك العملية، وخاصة تفادي ما وقع في نواكشوط الأولى من نقص في الوقود. عند اغزومال تم الاتفاق أن تضع الناحية الثانية بعض براميل الوقود وتوضع براميل أخرى في لبيرات الكبلية، حتى يكون الانسحاب، بعد العملية، ناجحا وسلسا وبدون تعقيدات. رغم كل تلك الاحتياطات، كانت تلك العملية مغامرة. كان فصل الصيف تلك السنة نارا، وكان الجيش الموريتاني والمغربي يتواجدان على خط بير ام كرين، الزويرات، اطار، شوم اينال، وكانت الدوريات تتقاطع في الطريق، وفي الأماكن التي لا توجد بها حراسات توجد جبال كثبان الرمال لا يمكن تجاوزها، وفوق المنطقة كلها، تحلق الطائرات الفرنسية والمغربية، وفوق كل ذلك كانت الاقمار الصناعية العالمية.  

الاحتياطات والحسابات

التقديرات التي تم وضعها هي ألا تبقى القوة في مكان مكشوف أكثر من يوم واحد فقط، وأن يتم قطع السلسلة الرملية الوعرة ازفال في الليل، وأن تصل القوة الى السكة الحديدية وقت العصر، وتستغل فاصل زمني قصير لا تمرّ فيه الدوريات الموريتانية وتقطعها. من الاحتياطات، أيضا، الاستعانة بأدلاء ماهرين: واحد مختص، على الأقل، في أرض الصحراء الغربية وواحد مختص في معرفة أرض موريتانيا. تم اختيار ثلاثة ادلاء وهم بارك  الله ولد اعوميير، ومحمود ولد سيدي، والفاظل ولد محمد الشيخ.

من الاحتياطات كذلك هو الانطلاق قبل الظهر بقليل، وقت تراخي الحراسات والدوريات، ووقت توقف تحليق الطائرات بسبب الحر القاتل في تلك المنطقة، والسير مساًء مع حافة كثبان ازفال. كانت التعليمات بسيطة وهي ان التوقف ممنوع، وأن تسير كل سيارة على أثر السيارة التي تسبقها لتفادي الكشف. مساء ذلك اليوم- السبت ثاني يوليو1977م- على الساعة الثانية زوالا تقريبا، بعد أن اشتدت الحرارة وتوقفت الحياة في قلب تلك الصحراء، انطلقت القوة من منطقة " لصكية"، ثم ناورت مرة أو اثنتين بتغيير الاتجاه، ثم اتبعت ظلال الكثبان، واجتازت، مساًء، السكة الحديدية في الوقت المحدد الذي لا تمر فيه الدوريات. اجتياز السكة الحديدية في ذلك الفراغ الزمني القصير الذي لا تمر فيه الدوريات الموريتانية هو سر نجاح العملية. سبب خطورة الاقتراب من السكة التي يمر منها قطار الحديد أو اقتصاد موريتانيا، هو أنها مكان خطير محروس بدوريات متحركة وحراسات ثابتة، وتحلق فوقه الطائرات المغربية والموريتانية باستمرار. اجتياز السكة والوصول إلى كثبان ازفال، بدون أن تنكشف الدورية، يعني نجاح الجزء الأول من الاحتياطات. بقي الامتحان الثاني وهو اجتياز سلسلة الكثبان الرملية الخطيرة والصعبة بدون مشاكل في الليل. يقول محمد مولود محمد سيدي احمد(تشيروني) الذي شارك في تلك المغامرة:" من حسن الحظ، كانت الليلة مقمرة، وكان علينا أن نقطع سلسلة كثبان ازفال الصعبة في الليل دون توقف. بتنا ليلة كاملة نحاول أن نقطع كثبان ازفال. بعض السيارات يغوص في الرمال فنضطر لاستخراجه بأيدينا، وبعضها يجد صعوبة في الخروج.(1). كانت تلك القوة تسير بلا أضواء وبلا أصوات محركات، بدون توقف الليل كله. تناول المقاتلون عشاءهم على ظهور سياراتهم وهي تسبح في تلك الكثبان الرملية الخرافية. قطعُ تلك الكثبان التي لم يقطعها أحد في التاريخ بتلك الطريقة، بلا أضواء في الليل، هو معجزة من معجزات أولئك الرجال. حين طلعت الشمس حارة، في اليوم الموالي، تتوعد تلك الصحراء بيوم من جهنم، كانت القوة قد خرجت من سلسلة كثبان الرمال- ازفال-. نجح الجزء الثاني من الخطة، وهو الخروج من الكثبان المميتة بدون مشاكل.

اليوم الصعب هو اليوم الذي ستقضيه القوة مكشوفة، تسير في وضح النهار، في أرض موريتانيا، في أماكن تتقاطع فيها الدوريات المغربية والموريتانية وتتبادل الأدوار، وتحلق فوقها الطائرات. الخطة هي مواصلة السير، دون توقف ودون راحة ودون تخوف، بمحاذاة حافة توجيريت نحو نواقشوط، لاستغلال ما توفره الكثبان والتعرجات من تمويه. تعتقد تلك القوة أن أية قوة برية ستصطدم معها سيكون مصيرها التدمير. 

السير على الطريق والقبض على السيارات 

على الواحدة ونصف من يوم 3 يوليو، ناورت القوة وغيرت المسار التقليدي للسير، وبدل ان تسير مع طريق كجوجت نواقشوط اتجهت غربا ووصلت الى الطريق المعبد الرابط بين نواذيبو ونواقشوط. السير مع الطريق المعبدة يتطلب القبض على اية سيارة تسير عليه. يواصل محمد مولود محمد سيدي أحمد حكيه للرحلة الخطيرة نحو نواقشوط:" أول ما صادفنا بعد صعودنا إلى الطريق المعبدة هي شاحنات فغنمناها هي ومن فيها وسرنا بها في اتجاهنا. جاءت شاحنة أخرى تحمل بعص الجنود السود متجهة نحو نواذيبو فالقينا عليها القبض. حين عرفونا، قفزوا من الشاحنة واطلقوا علينا النار فردينا عليهم بقوة وهربوا"(2). 

قبل أن تصل القوة إلى طريق نواذيبو نواقشوط، وعلى الساعة منتصف النهار ونصف من يوم 3 يوليو، حين كان قائد القطاع السابع في الجيش الموريتاني مارا بكجوجت، استقبل اتصالا لا سلكيا من قائد قوة بنشاب يخبره فيها أنه شاهد صباحا حوالي 33 سيارة صغيرة وشاحنتين تعبران تيجيريت. حدث استنفار في القيادة العامة في نواقشوط، وتم أمر كل القوات أن تكون على اتم الاستعداد وتبدأ حملات التمشيط بطريقة متقاطعة. حتى تنجح عملية التمشيط الموريتانية، بسبب عدم وجود طائرة عسكرية في نواقشوط، لجأت القوات الموريتانية الى طائرة مدنية navajo،  لتقوم بالاستطلاع. على الساعة الرابعة مساء انطلقت الطائرة ثم قامت بمسح بين نواقشوط، بنشاب، تيجيريت وكجوجت. على ما يبدو، اعتقدت الطائرة أن أية قوة متجهة إلى نواقشوط ستسلك طريق كجوجت- نواقشوط، اما طريق نواذيبو- نواقشوط فكان مستبعدا لصعوبة الوصول إليه. حين بدأت الطائرة تحلق، في المكان الخطأ، كانت القوة الصحراوية قد تخطت ذلك المجال المكشوف وأصبحت في منطقة مليئة بالأشجار غير بعيد عن طريق نواذيبو- نواقشوط. هذا يعني أن مناورة الدورية الصحراوية بالتوجه غربا على غير العادة، كانت ناجحة. على الساعة الخامسة، عادت تلك الطائرة دون أن تكتشف شيئا. لكن السلطات العسكرية في نواقشوط لم ترتاح، وطلبت من طائرة اخرى ديفيندر أن تحلق. الخطأ أن الطائرة الثانية أخذت مسار الطائرة الأولى، ونفذت طلعاتها ومسحها في نفس المنطقة(3). لا أحد منهم فكّر أن الدورية خادعتهم بتغير مسارها نحو طريق نواذيبو- نواقشوط.

على الساعة السادسة من يوم الأحد 3 يوليو، كانت القوة على مشارف نواقشوط. حدثت المعجزة؛ قطعت الدورية 1000 كلم دون أن يتم كشفها، واجتازت كثبان ازفال، وها هي على مشارف نواقشوط. العملية أصبحت مضمونة، ناجحة مائة بالمئة، وبقي فقط التفكير في طريق العودة الذي لن يكون سهلا. (يتبع) الحلقة القادمة: الهجوم والانسحاب الناجح

-

- المراجع: (1) (2)، محمد مولود سيدي احمد( تشيروني)، تسجيلات مع الكاتب، جوان 2022م

(3) ممادو صال، جندي موريتاني، تسجيلات مع الكاتب في الزويرات سبتمر 1999م 

blog-sahara.blogspot.com.es 

السيد حمدي يحظيه


يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء