طليطلة- طوليدو- هي جرح عربي نازف منذ
القديم في النفسية العربية لكن في الأراضي الأسبانية. نحن العرب والمسلمون لازلنا نرفض
إلى اليوم، بعد قرون على نزيف ذلك الجرح، ان نسمي طليطلة باسمها الروماني أصلا
والأسباني بعد- طوليدو-، ولازالت تطربنا تسمية طليطلة كنوع من التأسي.. في ذاكرة
المسلمين وفي كتبهم يحاولون رسم صورة هادئة لطليطلة، ولازالوا يحنون إليها مثلما
يحنون إلى بلد الوليد وإلى غرناطة وقرطبة وإلى الأندلس، وهو حنين معنوي فقط يسيل
دموع الذكريات والذاكرة، وينبش عن رماد تاريخ لا يريد أن ينطمس.. مرت على طليطلة
الكثير من الحضارات، لكن أكثرها تمظهرا، وربما أكثرها ماسأة، وإلى الآن، هي
الحضارة العربية الإسلامية..
في كل كتب التاريخ العربي طليطلة هي مدينة
الترجمة الكبيرة ومدينة العمران وصناعة السيوف وأدوات الحرب ومكان تربية الخيول
العربية الأصيلية. صورة جميلة ملونة تدغدغ التصور وترحل بالخيال إلى الماضي وإلى
التاريخ العربي الذي عاش غريبا عدة قرون.. لكن في الحاضر وفي لغة المنتصرين الأسبان
طليطلة هي مدينة أخرى مبنية من تاريخ صخري تكلله الأسطورة.
في طليطلة أو ما تبقى من اسمها
صباح يوم سبت رطب دافئ عموما في طليطة. الرجل
الكهل الواقف على الرصيف يسأل: من اين أنتم. هل تقيمون هنا.؟ نعم، نقيم هنا لبعض
الوقت، نحن من الصحراء الغربية..
ينظر إلى القلعة فوقه التي تستضيفنا في
طليطلة.. يبدو أنه مثل كل الطليطليين يحب الحديث عن التاريخ.. يقول: قلعة سان
سرفاندو، بناءها الرومان أصلا او العرب، أنا غير متأكد، لكن العرب استولوا عليها
وبنوها حسب طرازهم، قووها، أعادوا هندستها.. حولوها إلى ثكنة عسكرية، كانوا يسجنون
فيها الطليطليين الخارجين عن قانونهم، السجن كان هو البهو الذي تقام فيه الآن
المحاضرات.. حين استعاد الأسبان طليطلة أعادوا بناء الاسوار الخارجية على الطراز
الأسباني وتركوا الداخل.. أصبحوا يسجنون فيها العرب الذين يرفضون دفع الجزية أو
يرفضون الردة.. القبو الذي كان يتم فيه سجن النصارى أصبح سجنا للعرب.. في طليطلة
تتعايش ثلاث حضارات والكثير من الدماء التي امتزجت لكن أيضا سالت.." يذهب
الرجل في سبيله ويتركنا ننظر مندهشين إلى آثار طليطلة..
أقامت رابطة الصحفيين الصحراويين جمعها
الثاني في طليلطة، وكانت دار الضيافة في قلعة سان سرفاندو، نفس القلعة التي كان
ذلك الكهل يقول لي صباح السبت أنها كانت ثكنة وسجنا في نفس الوقت، وأن القبو –قاعة
المحاضرات- كان سجنا للنصارى ومن بعدهم للعرب، ثم بعد أن أنمحى العرب من تلك المدينة
تحول إلى شبه كنيسة او مكان للتعبد..
في قاعة المحاضرات والتجمعات التي كانت
سجنا ثم معبدا يسيطر على من سمع تلك المعلومة\الاسطورة وهو يتجول بعينيه في تلك
الجدران إحساس بتناقض التاريخ والحياة.. في نفس القبو كان العرب يسجنون النصارى،
ثم حين عاد النصارى، وثأرا وانتقاما من الذين سُجنوا هناك، أصبحوا يسجنون العرب..
التاريخ يضحك على التاريخ والماسأة تضحك على الماسأة..
زيارة ليلية لسماع الكثير من الأساطير
يطرب أهل طليطلة كثيرا أن يصحبوا زوارهم في
لليل لزيارة مدينتهم، ويطربهم أكثر أن يفتحوا لهم سجل كل الأساطير التي تُحكى في
تلك المدينة.. في تلك المدينة هناك لعبة قديمة بطلها العمران، لكن قلة هم الذين
فهموا تلك اللعبة.. فحين تمكن العرب من طليلطة، وحتى يخلدون أنفسهم بالعمران
والحضارة، قاموا بتغيير الشكل الخارجي لكل المباني التي وجدوا قبلهم فأصبح الطابع،
وهنا تكمن الخدعة البصرية، عربيا.. حين أنهزم العرب وخرجوا قام الإسبان بتغيير شكل
كل تلك البنايات العربية من الخارج وتركوا الداخل، فأصبح الطابع أسبانياُ أو
أوروبيا..
صعدنا تلك السلالم المتحركة إلى أعلى
لتوصلنا إلى مكان العمران والآثار.. يخيل إليك والسلالم تتحرك بك إلى أعلى أنك
تعود إلى الوراء قرون من الزمن.. الليل، لكنه غير صامت.. الأمكنة تعج بالسواح،
والبشر المتحرك فوق ذلك المسرح التاريخي، لو أمعنا في التخيل، يحمل جينات اليهود
والأسبان وربما حتى العرب.. وجوههم تختلف عن وجوه كل الأسبان في المدن الآخرى.
يبدأ إيقاع طليطلة الأساطير.. الدليلة تبدأ
حديثا سريعا طويلا لا ينتهي إلا ليبدأ.. ومثلما يقولون أنه في دمشق تحت كل نافذة
أصيص زهر فإنه في طليطلة تحت كل نافذ ة
تبدأ أسطورة لتنتهي آخرى.. هنا كل زقاق له اسطورته، حتى أصبحت طليطلة مدينة أساطير،
وينقصها فقط أن تدخل كتاب غينيس. التقدم إلى الأمام في أزقة طليطلة الضيقة يرافقه
إيقاع التاريخ وأمتزاجه، رغما عنه، بالأساطير\الحقائق الميتة.. ففي حين يرسم العرب
صورة جميلة لهم في كتب التاريخ، وأنهم هم من أتى بالترجمة والموسيقى، يتحدث تاريخ
طليطلة الآن عن صورة أخرى.. يخرج من تاريخ تلك الأزقة وجه الحسين بن المبروك،
الحاكم الأسمر الذي استباح المدينة بذهبها ونفائسها ونسائها.. كان يأخذ كل ما يريد،
خاصة الفتيات الجميلات، إلى أن ثار عليه أهل طليطلة ووصلت الأسطورة\ الحقيقة إلى
نهايتها: قطعوا رأسه.. جاء والده ليثأر فقتل كل الرجال في المدينة انتقاما لولده
القتيل.. ونتقدم في الشوارع ومع كل خطوة نخطوها تفاجئنا أسطورة ابطالها يهود ونصارى
وغالبا ما تكون قصة عشق من ذات النوع الممنوع: يهودي ونصرانية أو العكس..
وتتحدث طليطلة اليوم عن طليطلة آخرى غير
التي قرأنا عنها في كتب العرب والمسلمين.. فحتى تتم الغلبة للأسبان بدأ الطليطليون
يصنعون السلاح من سيوف ورماح حتى تحول كل منزل إلى مصنع. وتقول الدليلة: "الاسلحة
التي كانت تُصنع هنا ساهمت في تحرير الاندلس من العرب. أكثر الذين قُتلوا من العرب
في الاندلس قُتلوا بسيوف مصنوعة في طليطلة." في المكان الذي يظن التاريخ أنه
كتب فيه انتصاراته لا يعلم أنه سيكتب أيضا ماسأته.. تراجيديا التاريخ هي
الانتصارات الباهرة التي تتلوها هزائم دامية وهذا ما حدث للعرب في طليطلة.. تقول
كتب التاريخ أن العرب كتبوا كثيرا وترجموا كثيرا في طليطلة، لكن حين تمت استعادتها
من النصارى قاموا بوضع كل تلك الكنوز الثقافية في الساحة وحرقوها ظنا منهم أنها
كتب القرآن، لكن، بعد ذلك أكتشفوا أن أكثريتها كان عبارة عن ترجمة وعلم وهندسة
وفلسفة..
تنتهي الزيارة السريعة وتتعلق الأبصار
بالقصر الذي كان يوما ما للعرب ونقشوا عليه أسمائهم ثم بعد عوته إلى ملاكه
الأصليين حولوه إلى قصر طرازه محلي.. الشيء الوحيد الذي حافظوا عليه هو مكانه
الشاهق وشكله وزخرفته وهيبته وهو يرتفع فوق تلك الكدية التي تتكم على الكثير من
التاريخ والأساطير.
يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء