مرة خرج مصطفى مع أصدقاء له أكبر منه سناً
لاكتشاف بعض التلال فتاهوافي الصحراء. حين عرفوا أنهم تاهوا، عض مصطفى شفتيه بقوة
مدركا حجم الخطأ. لمَّا عاد من تيهه، أسمعه أبوه كل مفردات التوبيخ التي يعرف، لكن،
وبفضل شيء يشبه المعجزة، امسك الله يد الأب الغاضب عن ضرب الابن المذنب. في
النهاية سأل مصطفى والده، الذي كان على ما يبدو يبحث عن ما تبقى من مفردات التوبيخ
مما لم يذكره: ومتى إذن أستطيع إن اخرج مع من هم أكبر مني؟
قال له والده: حين ينبت شاربك مثل الرجال
بقى الطفل عدة سنوات يحلم إن يستيقظ يوما ويجد
شاربه قد نبت مثل الرجال. كان أيضا ينظر إلى كل رجل ذي شارب كبير ويتمنى مستيقظا
أن يصبح له شارب أكبر منه.
*********
حين نبتت أول الشعيرات في ذقن مصطفى اندلعت
الحرب. لم يذهب هو ورفاقه الأكبر منه إلى التلال للعب؛ ذهبوا إلى الحرب كمقاتلين.
في اليوم الذي تم تسجيلهم فيه، طلب منهم المسئول إن يختار كل واحد منهم لقباً
ينادونه به مثل كل الثوار حتى لا ينكشف اسمه الحقيقي من طرف الاستعمار. الرجل الذي
سبقه أعطوه اسم المري، آخر أعطوه اسم بدوش. حين جاء الدور على مصطفى أحتار، ولم
يعرف ما هو اللقب المناسب له. في غمرة حيرته اقترح عليه أحد من أصدقائه الذين
سايروا سنوات انتظاره الطويلة لنبات شاربه لقب "بو شارب".
لم يستسيغ المسئول اللقب فقال له: من الأفضل
نسميك "موسطاش".
قال مصطفى: ليكن ذلك، فلعل فيه الخير.
لكن حين كان المسئول يسجله تحت لقبه الجديد
سأله الشاب: وما معنى كلمة موسطاش؟
قال له المسئول ضاحكا: تعني الشارب
بالفرنسية.
من يومها حمل اسم "موسطاش". لا، بل
انه، قدوة بموضة السبعينات والثمانينات، ترك شاربه يكبر ويكبر حتى صار كثاً. ومن
عجائب القدر إن الله انبت له شاربا كبيرا مثل شارب نتشيه الفيلسوف الألماني
الكبير.
في النهاية غلب عليه اسم "موسطاش". في
وقت قصير نسى الكثير من الناس اسمه الحقيقي( مصطفى). حين كانت والدته تسأل
المقاتلين عنه باسمه الحقيقي ( مصطفى )، كانوا يتنكرون من وجود هذا الشخص معهم. في
إحدى عطله، قال لوالدته أن اسمه العسكري والسري هو "موسطاش"، وأنها إذا
أرادت أن تسال عنه فعليها أن تستعمل اسم "موسطاش". وحتى الأم نست من
جملة ما نست اسم مصطفى وصارت تناديه ب"مسطاش".
في إحدى الجلسات كان هو وبعض أصدقائه يتحدثون
بغضب عن وطنهم المحتل. وفي غمرة حديثهم أقسم أحدهم انه لن يتزوج حتى يتحرر وطنه.
آخر اقسم إن لا يتعطر حتى يتحرر وطنه، أما هو فاقسم أن لا يحلق
"موسطاشه" حتى يتحرر وطنه. أما رابعهم فأقسم أن لا يترك سلاحه حتى يتحرر
وطنه. رغم انه لم يعرف إن كان الذين
أقسموا معه في تلك الجلسة قد أوفوا بقسمهم أم لا إلا انه هو وفَىَ بقسمه، ولم يحلق
شاربه كلية. كان فقط يشذبه كلما طال حتى
يعود إلى وضعه الطبيعي. كان أصدقاؤه، حين يلعبون معه لعبة الورق، يقولون له أنهم إذا
هزموه سينتفون بعضا من شعرات شاربه. كانوا آخرون يقولون "أن عشرة شفرات لن
تحلق شاربك." أما بعضهم فكان يقول له حينما لا يجد ما يكنس به مركز الحراسة:
تعالى لنكنس الأرض بشاربك." ويضحكون جميعا.
********
مع طول الوقت وثقل النسيان، استعاد الكثير من
رفاقه أسماءهم الحقيقية، ونسوا الاسم الحركي( اللقب). هو وحده الذي لم يستطيع أن
يستعيد اسمه. بالنسبة إليه، اللقب لم يعد مجرد لقب للاختفاء فقط؛ صار رمزا لعهد
ولقسم. لا يريد أن يحنث.
من جهة أخرى أكسبته ضخامة موسطاشه شهرة حتى صار
الجميع يعرفه في المخيمات. تزامنت شهرة موسطاشه مع التحاق الكثير من الشباب
بالجيش. في تلك الفترة بالضبط تم تعيينه مدربا لدفعات الشباب الذين كانوا يدرسون
في الخارج. أصبح الشبان المتدربون يتفننون في تمسيته: أولئك الذين كانوا يدرسون في
ليبيا، أطلقوا عليه اسم " شنابو"؛ الذين كانوا يدرسون في الجزائر فقد
أطلقوا عليه اسم " بوشلاغم"، أما من كان قادما من كوبا فأطلقوا عليه
" بيغوطي". وبلغ ببعض المتدينين طلب منه قص شاربه والعفو عن لحيته عملا
بوصية الرسول. حين قال لهم أنه لا يستطيع تركوه وشأنه.
********
لمَّا انتهت الحرب وجد "موسطاش" نفسه
في خضم حرب أخرى لها أبطال من نوع آخر غير الذين يعرفهم. كان الأبطال الجدد تجار،
مسئولين، مهاجرين و سواق. وجد نفسه مضطرا إلى الانضمام إلى كتيبة من كتائب
"أبطال" ما بعد الحرب. في النهاية المحزنة انضم إلى كتيبة
"أبطال" الهجرة إلى أسبانيا، الاستعمار القديم الذي تخفى عنه تحت اسمه
المستعار.
في المهجر كان الناس ينظرون إلى شاربه بشيء من
الاستغراب الزائد. كان استغرابهم يصل إلى درجة الاشمئزاز والخوف من منظره. كانوا
يركزون نظراتهم كثيرا على شاربه، وكانوا يقولون في الكثير من الأحيان أشياء لا
يفهم منها إلا كلمة "بيغوطي"( شارب بالأسبانية). والذي حيره أكثر انه لم
يعثر على أي شخص في هذا المهجر الكبير العريض له موسطاش. كانوا كلهم حليقي اللحية
والشارب. فحتى أصدقائه المقاتلين الذين كانوا يتركون شواربهم تطول، قد جعلوا
وجوههم صحراء بيضاء. لم يعرف الكثير منهم بسبب تغير ملامحهم.
في إحدى الجلسات أقترح عليه بعض رفاقه القدامى
أن يجعل وجوده في المهجر " قانوينا"، وأنه من الأفضل له، تحسبا للظروف،
أن يحمل الجنسية الأسبانية. كانت تبريراتهم كثيرة:" حَمْلُ جنسية بلد لا تعني
بالضرورة خيانة لوطن ولا لشعب ولا لشهداء." ويقول آخرون:" ستساعدك في
التنقل بحرية والذهاب إلى أوروبا كلها." ويُجْهِزْ بعضهم على ما تبقى من
مقاومته فيقول له:" استغل الفرصة، فالدهر لا آمان له."
في الأخير وافق مضطرا على طلب الجنسية
الأسبانية. قام بكل الإجراءات الضرورية؛ انتظر طويلا، طويلا، وحين جاءه أمر القبول
تلقى سيلا من التهاني من كل الذين عرفوه. كانوا يقولون له:" الآن ستستريح. لن
تنتظر جواز سفر، ولن يردك أحد عن وجهة تريد الذهاب إليها.". " الآن اذهب
طولا وعرضا.". " الآن تستطيع العمل في فرنسا أو في أي بلد من أوروبا."
استدعته الشرطة ليتمم ما تبقى له من الإجراءت.
طلبوا منه إن يتعهد باحترام القانون والقواعد المعمول بها في البلد، وفي الأخير
طلبوا منه صور ملونة. في اليوم الموالي كان يقف أمام مقر الشرطة ليسلم الصور.
نظروا إلى صوره باستغراب وفي النهاية قالوا له: عليك أن تذهب وتحلق شاربك وتأتي
بصور جديدة. لا نستطيع إن نُعد بطاقة تعريف لشخص له شارب هكذا."
هزَّ رأسه نافيا وقال لهم "لا".
حين عاد إلى جماعته وجدهم في استقبالهم
ليهنئونه من جديد. قال لهم:" طلبوا مني المستحيل. قالوا لي حلق شاربك وآتي
بصور جديدة لا يظهر فيها هذا الشارب."
لم يقل لهم أي شيء إضافي. هم أيضا لم يسألوه
أكثر.
يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء