على العريفات الحضور( قصة قصيرة)

Resultado de imagen de ‫النساء الصحراويات‬‎كنا نسمع من حين لآخر أن مسئول مخيمنا سيقدم على عمل مهم. مرة سمعنا البوق يدعونا إلى الاجتماع عند الإدارة. حين اجتمعنا، تذكرنا كلنا ما كنا نسمع: المسئول قد يُقدم على عمل مهم.
تناول مسئول مخيمنا الميكروفون، وقال: "هذا هو أخر اجتماع عام. من الآن فصاعدا لن نعقد اجتماعات أخرى. أصبح مجتمعنا مثقفا وواعيا، ولم يعد في حاجة لمن يوجهه أو ينظمه." وختم حديثه الفائر حماسا بأمنية زرقاء:" نتمنى أن يكون الاجتماع القادم في الوطن المحرر."
 
قطَّع الخبر الحاد "العريفات" الحاضرات من الداخل. في لغتنا اللاجئة، "العريفات" هن النساء اللاتي فتحنا أعيننا عليهن ينظمن الحياة في مخيمنا في اللجوء. تلك اللحظة أحست كل واحدة منهن بشيء ما غامض يتلوَّى في أعماقها. شيء غير ملموس، لكنه يتحرك ويثور بعنف وفوضى في ذاكرة، وجدان وفي وعي كل منهن. ما هو هذا الشيء الغامض.؟ لم يعرفن ما هو بالضبط. لم تؤمن أي منهن أن لا اجتماع بعد الآن. ماذا حدث لمسئول المخيم.؟ كيف غيَّر أفكاره هكذا؟ هل أصبح يخرف،؟ هل فقد الذاكرة؟، هل أصبح يحمل في رأسه نظريات سريالية يريد تطبيقها في مخيم منسي في الصحراء..؟. ليس معقولا إن لا يجتمع سكان المخيم للحملة، لتخليد الذكريات، للنقاش. هم يفعلون هذا منذ نزلوا هنا. ماذا سيفعلون إذن إذا لم يجتمعوا مرة في الأسبوع مثلما اعتادوا على ذلك؟ هل سيتفرقون.؟
وحين كنَّ، كلهن، غائبات روحيا عن المكان، يتصارعن مع سكين الخبر المفاجئ التي تُقطع فيهن طولا وعرضا، سمعن المسئول، الذي أراد أن يركب موجة التغيير، يقول ذابحا بوحشية، بحفنة كلمات معدودات، كل ماضيهن:
" وعلى كل "العريفات" أن يعتبرن أنفسهن من الآن فصاعدا مواطنات عاديات."
صفق بعض الحاضرين، خاصة من الجيل الشاب. اندهش البعض الآخر. أمرنا المسئول أن ننصرف لأعمالنا.
حين تم تفرق الناس في اتجاهات مختلفة، بقيت "العريفات" في مكان الاجتماع جامدات، حيات وميتات في آن. بقين واقفات، صامتات، ينظرن إلى بعضهن البعض. كل واحدة منهن تحكي قصتها\ قصتهن على الأخريات في صمت. " جمعنا وقت طويل في المخيم اللاجئ. وقت لا يُعدُّ فقط بالسنوات، إنما، بالعقود. " العريفات" تسمية عسكرية، مدنية أطلقها علينا الناس. نحن النساء اللاتي ظللن نحمل المخيم على أكتافنا، بين أحضاننا، في قلوبنا وعقولنا كل هذا الزمن. كنَّا دائما حاضرات لكل ما حدث في هذا المخيم الذي يبدو هشا من الخارج. شيدنا الإدارة، المدرسة والمستشفى، بنينا مجد المخيم بالعرق، بنينا سمعته بالصمود. نحن من يزيح الرمال عن أطراف المخيم، نحن من ينظفه، نحن من يمسح عنه غبار النسيان. أقمنا فيه كرنفالات لا تُعد ولا تحصى للحياة. ظللنا نتمسك "بخوالفه" حتى لا تطير خيامه مع الريح. كنَّا مع دوران كل شمس نغرز مزيدا من الأوتاد في الأرض، نثبت مزيدا من الركائز حتى أصبح المخيم كبيرا؛ أصبح مدينة من القماش في عمق الخلاء. زرعنا حتى الأشجار في تلك الصحراء التي لا ينبت فيها ما عدا العدم. وحتى حين كانت الحرب تطحن وتذر، تشتعل وتترمد، كنّاَ هنا واقفات تحت الشمس. كنَّا نستقبل المقاتلين المنتصرين بالزغاريد، نوعهم بتلويح أطراف ملاحفنا. نستقبل الجرحى، نمسح  دماء جراحهم، نشجع النساء اللاتي فقدن شهداء في الحرب، نجفف دموع الأمهات اللاتي يودعن التلاميذ الذاهبين إلى الخارج.. حضرنا لكل الاحتفالات المخلدة للذكريات، زغردنا، رفعنا الأعلام الوطنية عاليا، غنينا، رقصنا، فرِحنا وحزنَّا - في مرات كثيرة- أيضا. كنَّا كل شيء في المخيم: نشرف على الاجتماعات، على الحملات، نحرض الناس على الصمود، على هزيمة العدو، نشعل الشموع في الليالي الحالكات. وحين تزور الوفود الكثيرة مخيمنا كنا نحن " العريفات" أول من يتواجد عند الإدارة ننظم الناس، نوزع التموين، ندل الأجانب على مكان استقبالهم." 

حين حكت كل منهن تاريخها في المخيم على ذاتها وعلى الأخريات بصمت أخرس انصرفن. ذهبت كل منهن إلى خيمتها في صمت أيضا.
                                 *******
لم يُعجب بعض سكان مخيمنا القرار. الكثير منا لم يذهب ذلك اليوم إلى عمله. كنا نسمع همهمات بعض سكاننا ترتفع من الخيام في الظلام:" ايه.. الناس تنسى بسرعة. حين كانت الريح الحمراء المتوحشة تهاجم المخيم محاولة سحقه ونزع أوتاده وركائزه من الأرض، كانت العريفات هنا. كنَّ يحرضن الناس أن لا يخافوا من الريح، أن يقفوا في وجهها، أن يخيطوا خيامهم إذا تمزقت، أن يغرزوا الأوتاد بقوة، بقوة في الأرض." ونسمع صوتا آخرا متحديا العتمةيقول:" وفي المرات الكثيرة التي جرف فيها الفيضان المخيم، كنَّ هن أيضا واقفات في منتصف السيل ينقذن الناس ويحرضنهم على الثبات."
 هذه حقيقة مثل الشمس. " العريفات" كنَّ حاضرات يرسمن، بالألوان، كل تفاصيل بانوراما مخيمنا المنسي. فإذا تحركت حبة رمل من كثيب، كنَّ هن أول من يعلم بذلك ويتدخل. فحتى حين كان يزداد مولود في المخيم يشرفن هن على إعطائه اسم أحد المقاتلين أو الشهداء، ويتكلفن به حتى إقامة احتفال ختانه وتزويجه. وحين يتزوج شخص ما يحضرن هن أيضا، يحددن كم يدوم حفل الزفاف، كم من الأثاث يتم جلبه، هل يُسمح بنحر جمل أو فقط يتم الاكتفاء بذبح خروف أو أكثر. كل صباح يمررن بين صفوف المخيم، ينظفن، يحثثن النساء على العمل، يعقمن الماء في الصهاريج والآبار، يسألن عن المرضى، عن التلاميذ المتغيبين، عن من لم يلتحق بعلمه.  ويتحدى صوت قديم الظلام، فيقول:" كنَّ حتى ينبهن السكان إلى الرمال التي تزحف وتتجمع بصمت حول خيامهم، يطلبن منهم إن يزيحوها حتى لا تدفنهم أحياء".
 ويجيبه صوت آخر مغمغما من نفس الظلام:" وحتى بعد إن بدأ الناس مؤخرا يتململون من الحر، من البرد، من الريح، من قلة الحيلة، من قلة المال، من قلة العمل في اللجوء بقين هن في أماكنهن. لم تغير أي منهن وضعها أو مكان بيتها أو باب قيطونها. فإذا أسقط المطر أو الريح بيوتهن وخيامهن، كنَّ يعيدن بنائها وهن يغنين ويرقصن بحماس. لا شيء غيَّر من ثباتهن. كنَّ يشاهدن، يوميا، الناس ترحل، تهاجر مثل الطيور الخائفة إلى ما وراء البحار، تذهب إلى البادية والبلدان المجاورة. كنَّ حتى يشاهدن الناس يحولون بيوتهم إلى متاجر، يجعلونها كبيرة ومغطاة، يبنونها فوق مرتفعات.. مع مرور الوقت البطيء بدأن يحسسن أن المخيم بضجيجه، ببانوراماه، بمشاكله، بريحه، بمطره، بحره، ببرده، بالحياة الضاجة في قلبه، أصبح هو مسكنهن، وأن سكانه، كلهم، هم أبناء لهن. " 
                     
الحقيقة تقال. بعد قرار تحويل "العريفات" إلى مواطنات عاديات أو إحالتهن- بلغة العصر- على التقاعد، أو وضعهن في الأرشيف أو الكراج -بلغة شباننا-، أحس مخيمنا أن شيئا مدوخا حدث. تزلزل مخيمنا، بدأت ركائزه تهتز وتتمايل. باختصار، فقدَ مخيمنا، الذي عرفناه لمدة طويلة قوياً، متماسكاً، حياً الكثير من توازنه؛ لم يعرف كيف يتصرف وماذا يفعل وكيف يمشي. فرغم ما أعلن عنه المسئول، الذي أراد أن يجدد، من انفتاح، ديمقراطية، عولمة، تنظيم أوتوماتيكي وتسيير علمي لا يَعتمد على "العريفات"، إلا إن مخيمنا بدأ يَعرجْ. تغيرت مشيته، تداخلت حركاته، وبدأ يتخبط في الرمال والغبار. فحين زارتنا الوفود لم تجد من ينظمها أو يهتم بها؛ حين وقفت الشاحنات محملة بالتموين لم تجد من يوزعه على الناس، وحتى حين بدأ موعد إحدى الذكريات الوطنية يقترب، بدأ واضحا أن مخيمنا لن ينظمها أو يهتم بها هذه المرة. لم يسمع أحد الفرقة الفنية تُحضر السهرة، لم يسمع أحد شخصاً ما يتكلم عن الاستقبال، لم يشاهد أي منا كتائب التجييش تتدرب. بدأ كل شيء يفتر في صدر مخيمنا؛ هدأ الضجيج في حنجرته وخبأ النشاط في دمه. بدأ الناس يدخلونه متخفين في الليل فقط، وفي الصباح، قبل بزوغ الشمس، يخرجون منه جريا هاربين إلى الرابوني أو المرسى كأنما يضربهم احد على قفاهم بعصا، أو كأنما يدوسون على الجمر بأرجلهم.
وحتى الرمال بدأت تتجرأ وتزحف يوما بعد يوم لتحاصر خيامنا وبيوتنا الهشة. لم يدعو أي أحد السكان للقيام بحملة نظافة. فقط، كان المسئول، من حين لآخر، يطلب من الناس في البوق أن ينظفوا البيئة، لكن، حسب تعبير سكاننا:" لا يقوم له أحد من الرقاد." الوضع الفوضوي الجديد جعل الكثير من السكان يجتمع اجتماعات غير منظمة بحثا عن حل. وفي غمرة البحث عن حل، وتعدد الاجتماعات، انتبه مخيمنا ذات يوم إلى صوت البوق الذي حل محل الجرس الحديدي الصدئ، يقول، بصوت واضح قوي رغم الريح التي كانت تعوي: "على كل العريفات الحضور عند الإدارة بأسرع وقت."
لم يعرف أي أحد من سكان مخيمنا منْ ذا الذي نادى في البوق: مسئول المخيم قال أنه ليس هو من نادى؛ الشيخ الذي يحرس الإدارة، والذي كان يضرب الجرس قبل موضة البوق، قال أنه ليس هو، وانه وقتها كان يلعب ظامة. الأطفال أيضا قالوا أنهم ليسوا هم. لم يكن أيضا جنياً، لأن الجنون لا تتكلم ولا تخرج في النهار. البعض، رغبة منهم في التفسير- المهم التفسير- قال أن ضمير المخيم هو الذي تكلم في البوق.
حضرت العريفات بحماس، رافعات رؤوسهن، دون إن يسألن عن من نادى عليهن في البوق، وبدأن عملهن القديم. عاد صدر مخيمنا يتنفس من جديد، وبقوة.      

           

يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء