المرأة الصحراوية: بناء المؤسسات بعرق النساء( دراسة يتبع)




Resultado de imagen de mujer saharaui
بعد حوالي سنة من الانتظار في المخيمات بدأ اللاجئون الصحراويون يدركون في النهاية- دون أن يفقدوا الأمل- أن عودتهم إلى أرضهم قد لا تكون سريعة وربما تتطلب الكثير من الانتظار والصبر. على مدار العام الأول من اللجوء أعتمد اللاجئون على الخيام كمدارس ومستشفيات وإدارات، لكن تلك المؤسسات البائسة لم تقاوم كثيرا طبيعة الحمادة الانتقامية.. تقرر بناء مؤسسات، مدراس، مستشفيات وإدارات من الطوب حتى تقاوم أطول. إن البناء في الحمادة ليس مثلما قد يتصوره أي كان؛ ليس طبعا بناء من الاسمنت والحديد والأجور؛ هو بناء فقط من الطوب المغطى بصفائح الزنك. كانت عملية البناء تعتمد على عجن الغبار والرمل والتراب بالماء المالح وتحويله إلى أجور. لكن من سيبني كل هذه المؤسسات؟. الرجال، كلهم أو غالبيتهم الساحقة في الحرب، ولم يكن يتواجد في المخيمات سواء النساء. هؤلاء هن من كان عليه أن يشمر عن سواعده ليبني المؤسسات الصغيرة الضرورية التي سيتعلم أو يتطبب فيها الأطفال والعجزة والمرضى من المخيمات. تقرر إن يتم القيام بما سيسمى لاحقا "الحملات الشعبية"، وهي حملات جماعية تقوم بها النساء في كل مخيم على حدة لبناء مدرسة، مستوصف، مقر البلدية( الدائرة) أو الإدارة في كل مخيم. وكما حدث مع خياطة أقواطين – اللجوء إلى العمل النسوي الجماعي- تم اللجوء إلى نفس الخطة حيما تعلق الأمر بالنباء: كل نساء مخيم او حي كن يجتمعن كل يوم لصناعة الآجر ثم بنائه بعد ذلك. تحت شعار " الحملات الشعبية"، لكن أيضا تحت شمس الحمادة وبردها، بدأت عمليات بناء المؤسسات المحيلة منذ نهاية 1976م.. كانت نساء كل مخيم يتجمعن كل صباح في ساعة محددة ويبدأن يصنعن الآجور من التراب والماء المالحين في ظروف طبيعية قاهرة: درجة الحرارة تصل إلى حوالي 50 درجة في الصيف، رياح من الغبار لا تتوقف إلا لتهب من جديد وبأكثر قوة. أكثر من ذلك لم تكن بشرات النساء الطرية تتحمل تأثيرات الماء المر والتراب المالح. كن يعملن في تلك الظروف إلى ساعات متأخرة من النهار وأحيانا يعلمن في الصباح والمساء، وحين يعدن إلى خيامهن يبدأن عملهن الروتيني اليومي: إعداد الوجبات للأطفال، ترقيع وخياطة أقواطين التي مزقتها الرياح في غيابهن. كل امرأة تعود إلى خيمتها، بعد يوم حافل من العمل المضني، تجدها كما تركتها في الصباح: الأغطية مثلما تركها الأطفال، الصحون مرمية في كل مكان والغبار قد غطى كل شيء.
كل الظروف كانت في غاية الصعوبة. فبالإضافة إلى ظروف العمل( حر، برد، صعوبة) لم يكن هناك ما يؤكل أيضا. كان كل ما هنالك هو حفنات من الحبوب الجافة والدقيق. لم تكن نساء المخيمات وأطفالهن يعرفن الحليب واللبن والخضر والفواكه واللحم والسمك. هذه الأكلات تم نسيانها منذ زمن، بل أن الأطفال الذين ولدوا في اللجوء لا يعرفون أصلا كيف هي وما هو طعمها ولونها. حتى الحبوب التي كانت متوفرة إذا لم تجد الماء العذب لن تنضج بسهولة، وحتى لو بقيت الساعات تلو الساعات على النار تبقى صلبة وغير صالحة للأكل. ومما زاد من سوء تغذية سكان المخيمات أن الماء العذب لم يكن موجودا في الحمادة. في الشهور الأولى بدأت النساء وأطفالهن، أو اللاجئون بصفة عامة، يشعرون بألم في مَعِداتهم واكتشفوا أن أسنانهم، خاصة أسنان أطفالهم الذين ولدوا في اللجوء، بدأت تأخذ لونا أصفرا غير طبيعي وتتسوس بسرعة. وقت قليل بعد ذلك اكتشفوا أن ما حدث لهم كان بسبب أكل الحبوب غير المطهاة جيدا وبسبب شرب الشاي على غاز البوتان.

ولم يكن بناء المؤسسات المحيلة ( مدارس، مشافي، إدارات) هو ما كان ينتظر نساء المخيمات ليقمن به. كان عليهن أيضا بناء ما يُسمى المؤسسات الجهوية أو الولايئة . فمن المفروض أن يتم بناء مستشفا جهويا، مقرا للولاية ومقرا الهلال واستقبالا للوفود الأجنبية والمهمة. وحين تم الانتهاء من كل هذه البنايات الكثيرة بدأت عملية أخرى هي ما يسمى بناء المؤسسات الوطنية. فالدولة في الحمادة، بعد أن " استقرت" بدأت تبني مقرات الوزارات والمديريات العامة والمستشفيات والمدارس الوطنية. كل هذه البنايات الكثيرة والصعبة مرت على يدي نساء المخيمات الملساء وطبعا لا بد أن الكثير من عرقهن أو حتى دمهن أختلط مع الماء الذي عُجن به الطوب والغبار والرمال المستعمل في البناء.

في السنة الأولى من اللجوء كانت كل امرأة تبني خويمة صغيرة ( نوالة) ملاصقة لخيمتها تستعملها كمطبخ، لكن هبوب الرياح واستعمال غاز البوتان جعل الحرائق تكثر داخل المخيمات. والمشكلة أنه إذا احترق اكيطون واحد فإنه قادر، بسبب حركة الرياح وتقارب الخيام، أن يحرق مخيما بأكلمه. المشكلة الأخرى أن القماش الذي كانت تُخاط منه أقواطين كان مدهونا بمادة دسمة تساعده على مقاومة الطبيعة، لكن تلك المادة كانت، أيضا، سهلة الاشتعال. إن تكرار الحرائق وتخوف الناس منها جعل من المفروض أن تبني كل امرأة وبالآجور، مطبخا ملاصقا لخيمتها تفاديا للحرائق. سنوات بعد ذلك، وحين لم يلح في الأفق أن العودة إلى الوطن ستكون قريبة، بدأت النساء بناء بيوتا وغرفا من الطوب لكن احتفظن بالخيام في مكانها كرمز لعدم الاستقرار والاستعداد للعودة إذا تطلب الأمر لك.

ولم يكن البناء هو العمل الصعب الوحيد الذي واجه نساء المخيمات في السنوات الأولى من اللجوء. فمثلا في سنوات 1977م، 1979 م وفي 1986م حسب المعلومات المتوفرة عند الصحراويين فإن المغرب كان يعد خطة لقصف المخيمات بالطائرات. والواقع إن المخيمات بالطريقة التي تم تجميعها بها ( تجمعات سكنية كبيرة متجاورة) وفي المكان الذي اُختير لها( أرض جرداء مكشوفة بلا غطاء نباتي وبلا أشجار)، لو كانت قُصفت كانت ستكون كارثة. ربما كانت الكارثة ستكون أكبر من كارثة قصف المخيمات في اتفاريتي وفي ام دريكة والقلتة في بداية 1976م. إن ما حصل من قصف للمدنيين الصحراويين بالطائرات والقنابل المحرمة دوليا جعل الصحراويين يقتنعون أن المغرب قادر على قصف المدنيين مرة أخرى وارتكاب مجازر بشرية انتقامية جديدة خاصة أن الأنباء الواردة آنذاك من ميدان المعارك في الصحراء تقول أن رجال أولئك النسوة اللاجئات هزموا الجيش المغربي في الميدان العسكري. وكحل احتياطي كان يجب خلق عوامل الصمود في ذلك المكان القاسي جغرافياً. لا يوجد مفر، لا يوجد مَهْربُ آخر خاصة بعد أن تم بناء المؤسسات بكثير من الجهد وبدأت الحياة تعرف نوعا من الاستقرار. وليس هذا فقط بل أن سكان المخيمات المكونين أساسا من النساء والأطفال والعجزة كانوا غير قادرين على التنقل إلى أماكن أخرى. إن الأنباء التي كانت تقول أن المغرب قد يشن هجوما بالطائرات على المدنيين تم استقبالها في المخيمات بالكثير من الإحباط والخوف. فالحمادة التي تفتقد أي حماية طبيعية مثل الأشجار والجبال تجعل حدوث قصف هو كارثة. إن قنبلة واحدة تُرمى من طائرة فوق إحدى المخيمات المقامة في الحمادة كانت كفيلة إن تحرق ذلك المخيم بصفة كلية وتقتل الكثير من أفراده. إن مخيما خيامه متجاورة ومجتمعا، مبنياً من القماش السهل الاشتعال كان هدفا في غاية السهولة للطيران. في الواقع كان للخوف من القصف الكثير من المبررات. وحتى يتم تفادي أي قصف في المستقبل وجدت النساء أنفسهن مضطرات إلى حفر خنادق تحت الأرض. لكن الحفر في تلك الحمادة القاسية لم يكن بالسهولة التي قد تخطر على بال أي شخص. فمثلا حين كانت النساء تقوم بغرز أوتاد خيامهن في الأرض وجدن صعوبة بالغة في تحقيق ذلك. كانت المرأة منهن تدق الوتد الحاد بمطارق من الحديد، لكن بدل أن ينغرز في التراب كان يلتوي ويَعْوَجْ أو تنكسر المطرقة بسبب صلابة الأرض.
حين بدأت عملية حفر الخنادق كان على النساء أن يقمن بالحفر على مراحل: المرحلة الأولى هي صب الماء في مكان الحفر حتى تلين التربة؛ المرحلة الثانية هي الحفر وبعد ذلك يُصب الماء مرة أخرى حتى تلين الطبقة المقبلة. كان يجب إن يتم الحفر بأقصى سرعة حتى لا تحدث مفاجأة القصف بغتة. تركت عمليات الحفر تلك الكثير من الجراح والرضوض في أيدي النساء وأرجلهن، لكن في الأخير انتصرن في تلك المعركة.


يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء