أمهات الملاحم: الوركزيز( الحلقة الثانية

 




" إلى حد الآن، حين يفيض وادي تيغزرت، قرب الوركزيز، يجرف في فيضانه عظام الجنود المغاربة، وتطفو جماجمهم على الماء في منظر بشع. هذه العظام تعود للجنود المغاربة الذين ماتوا خلال المعارك الشرسة التي أبيدت فيها قوات "الزلاقة وأحد" في الوركزيز على أيدي مقاتلي الشعب الصحراوي البطل. لقد هرب عنهم أصدقاؤهم وتركوهم موتى وجرحى وافترستهم الحيوانات المتوحشة التي تسكن في جبال الوركزيز. حين نمُر من هناك ونرى تلك العظام نجمعها وندفنها من جديد"( ).  

***

منذ مارس 1980م، بعد حدوث واحدة من أكبر المعارك في تاريخ الحرب في العالم في منطقة الوركزيز بالجنوب المغربي، ونحن والعالم نسمع ونقرأ عن " حصار الوركزيز"، " حصار الزاك"، "معارك الوركزيز"، " معارك لنقاب"، " معارك وادي تيغزرت" و" معارك أمطي"، معارك " إيمان". في خضم هذا الكم الهائل من هذه الاسماء الكثيرة يتشتت تركيز المتلقي والقارئ والسامع فيبقى في حالة ارتباك ذهني وقلَق. هذا القلق يدفع المتلقي والمتحمس لقراءة أي شيء عن ملاحم جيش التحرير الشعبي ومفاخره إلى محاولة فك هذا اللغز، وتتولد لديه رغبة كبيرة للمزيد من البحث. يتكون لديه هاجس معرفة وهاجس شغف بمعرفة التفاصيل، وتفكيك هذا الكم الهائل من الاسماء التي يسمع بها ويقرأ عنها حول حدث عسكري واحد حدث في جبال الوركزيز بداية من مارس 1980م. لتفكيك هذا الكم الهائل من الاسماء التي أُطلقت على العمل العسكري الذي قام به الجيش الصحراوي في منطقة الوركزيز في ذلك التاريخ، سيجد الذي تابع الموضوع وتفاصيله أن من مسؤوليته أن يفك ذلك اللغز ويوضحه، ويجعله بسيطا، وفي متناول أي قارئ أو سامع، خاصة من أولئك الذين لهم غيرة على جيش التحرير الشعبي الصحراوي وتاريخه، ويدعون إلى كتابة ذلك التاريخ المكتوب أصلا فوق الشمس.      

لنجعل الموضوع بسيطا جدا، على شكل درس يمزج بين التاريخ والجغرافيا والسياسة. 

"الزاك" قرية مبنية بداخل دائرة جبلية من سلسلة الوركزيز

تعتبر جبال الوركزيز-في جزء منها فقط-هي خط الحدود الفاصل بين الجزائر والمغرب في الغرب، لكن حين يمتد خط الحدود مستقيما إلى أسفل، في اتجاه تندوف، تنعقف سلسلة الوركزيز وتدخل المغرب يصبح ذلك الجزء منها جبالا مغربية. في جزء الوركزيز الداخل في التراب المغربي توجد دائرة جبلية صغيرة مغلقة لها مدخل واحد كبير يسمى " نقاب الوركزيز" أو" لنقاب"، وبداخل تلك الدائرة الجبلية تم بناء قرية اسمها الزاك. أصبح المدخل الوحيد إلى الزاك هو فتحة "لنقاب"، وما عدا ذلك لا توجد إلا فتحات صغير لكن لا تسمح بمرور السيارات الكبيرة والشاحنات.  

كيف وصل وتواجد جيش التحرير الشعبي الصحراوي في الوركزيز جنوب المغرب؟

نبدأ بالسؤال المهم وهو كيف تواجد جيش التحرير الشعبي الصحراوي في الوركزيز منذ نهاية 1979م وبداية سنة 1980م.؟ 

بعد خروج موريتانيا من الحرب في جويلية-أخر معركة هي معركة تشلة يوم 12 جويلية 1979م-سيتفرغ جيش التحرير الشعبي الصحراوي، بكامل وحداته ونواحيه، لدحر الجيش المغربي، لكن بطبيعة الحال سيجد أنه من المستحيل مهاجمة المدن الصحراوية مثل العيون والداخلة والسمارة لأنه لا يريد تدميرها ولا يريد إيذاء المواطنين الصحراويين الذين بقوا فيها. يوم 11 غشت 1979م، كانت فيالق حامية بئر انزران تستعد للخروج للتوجه إلى الداخلة للمشاركة في احتلالها بعد خروج موريتانيا منها، لكن بيوم واحد قبل خروج تلك الفيالق تم تدميرها. تم احتلال مدينة الداخلة الصحراوية من طرف الجيش المغربي يوم 14 غشت 1979م في عملية تحدي للعالم وللشعب الصحراوي. احتلال مدينة الداخلة، أخر مدينة كبيرة في الجنوب الصحراوي، جعل المغرب يظن أن الجيش الصحراوي سيركز هجوماته على المدن الصحراوية فأقام فيها فيالق كبيرة، وأنشأ فيالق جديدة لتلك المهمة. 

إذا كان الجيش المغربي قد توجه إلى المدن الصحراوية " لحمايتها"، فإن الجيش الصحراوي قد قرأ المعادلة من الخلف: قرر أن ينتقل بعملياته إلى جنوب المغرب.  حتى نفهم كيف تقدّم الجيش الصحراوي نحو الوركزيز لا بد أن نُذكر بعملية لبيرات في 24 غشت 1979م. في حامية لبيرات، حين تمت مهاجمتها وتدميرها وغنم ما فيها، كانت هناك كتائب وفيالق من الدبابات والعربات المدرعة والمدفعية فقط. تلك الحامية كانت مكونة من الدبابات والمدرعات، وكانت مهمتها في تلك المنطقة هو قطع الطريق على الجيش الصحراوي حتى لا يتسلل نحو جنوب المغرب. حتى يتم شل عمل ومهمة تلك الحماية حدثت العملية الاستعراضية الكبيرة- مجزرة الدبابات- التي قام بها الجيش الصحراوي يوم 24 غشت 1979م، أين قُضى على حامية الدبابات التي كانت مرابطة هناك، وبالقضاء عليها فقدَ الجيش المغربي أكثر من نصف قوته المدرعة. تدمير تلك الحامية المدرعة جعل الجيش المغربي يتراجع عن ذلك الموقع المتقدم لأنه لم يستطيع تعويض الدبابات المحطمة بدبابات أخرى جديدة. هذا يعني أنه تم تدمير خط الدفاع الأول القوي المُكون من الدروع الذي كان سيحمي الوركزيز والجنوب المغربي ويمنع توغل الجيش الصحراوي إلى العمق المغربي. بعد خلو لبيرات، يبدو أن الجيش الصحراوي أصبح يطمح إلى إقامة مراكزه المتقدمة في الوركزيز. لكن حتى يضمن إقامة مراكزه هناك لا بد له من طريق مؤمن يضمن إمداداته القادمة من الخلف. هذا يقود إلى أنه يجب تحرير الطريق المار بالمحبس والسيطرة عليه وجعله شريان الإمداد والدعم. بصيغة أخرى، إخلاء لبيرات وتدمير قوته المدرعة الدفاعية ليس كافيا لإقامة المراكز في واد تيغزرت قرب الوركزيز. لتحرير تلك الطريق تمت مهاجمة مدينة المحبس في اكتوبر 1979م وإخلائها من الجيش المغربي بعد تلقيه هزيمة مذلة في تلك المعركة التي لازالت هياكل قتلاها من العسكريين المغاربة مرمية في العراء بعد فرار رفقاهم عنهم وتركهم دون دفن في العراء. هكذا أصبحت الطريق إلى جنوب المغرب، وبالأخص إلى الوركزيز، معبدة. بدأت المعارك الاستعراضية خاصة في تويزكي وأغا وطاطا. 

المرحلة الأولى: عزل قرية الزاك

نعود إلى المصطلحات مرة أخرى. في مرحلة أولى سيكون الاسم الدقيق لبداية ما حدث من ملاحم في منطقة الوركزيز هو عزل الزاك. لماذا عزل الزاك؟ لإن الجيش المغربي كان قد دفع في سنة 1978م بفيلق عسكري هو الفيلق الثالث إلى قرية الزاك " لحمايتها"، وليقيم دفاعاته هناك، وهو فيلق مجهز بالهاونات والرشاشات ويقوده العقيد سعيد ميلود. توزع الفيلق على مداخل القرية، وحفر الخنادق في الصخور وأصبح في وضعية دفاعية قوية. بعد القضاء على حامية لبيرات في غشت 1979م، وبعد تحرير المحبس خَلَىَ الطريق تماما للجيش الصحراوي كي يتقدم نحو الوركزيز ليتمركز فيها. بدأت كتائب الجيش الصحراوي تتقدم نحو الشمال حتى وصلت إلى وادي درعة، وأقامت مراكزها المتحركة في وادي تيغزرت وفي الجيوب الجبلية المحيطة به. هذا يعني أن الجيش الصحراوي تخطى قرية الزاك، وأصبحت خلفه. بلغة أخرى، فَصَلَ أو عزل الجيش الصحراوي بين قرية الزاك المتحصنة في الجبال وعمقها الاستراتيجي الذي يأتي منه الدعم والإمداد سواء من طريق لمسيد أو آسا. تمت السيطرة على الطريق الذي يربطها ب "لمسيد والطانطان، وتم إغلاق المدخل الوحيد المؤدي إليها وهو فتحة "نقاب الزاك". 

المرحلة الثانية: حصار الزاك

بعد عزل قرية الزاك بدأ التفكير في اقتحامها. هي مكان مهم استراتيجيا، وإذا تمت السيطرة عليها تصبح الوركزيز كلها تحت سيطرة جيش التحرير الشعبي. في الوقت الذي تم عزل تلك القرية عن عمقها كان يتواجد فيها فيلق يقدر ب 2000 جندي، وكله في وضعية دفاع. حين وصل الجيش الصحراوي إلى تيغزرت أصبحت حامية الزاك تعرف أنها، آجلا أم عاجلا، ستقع فريسة سهلة لهجمة صحراوية مباغتة أو اقتحام مثلما حدث في لبيرات غير البعيدة عنها. أصبح الفيلق المتواجد فيها أكثر يقظة، وتخندق بشكل جيد ولم يعد أفراده ينامون. تمت إقامة دفاعات فوق المرتفع ودفاعات تحته، وعاش الجميع على أعصابه.

الحصار بدأ منذ بداية ديسمبر 1979م، وسيستمر إلى غاية 12 مايو 1980م. يوم 6 ديسمبر 1979م تمت محاولة اقتحامه، وتعرض لقصف كبير من كل الجهات، لكن كانت دفاعاته ترد بشكل جيد. تمت مراجعة فكرة اقتحامه والسيطرة عليه. المقاتلون الذين هاجموه كانوا يعرفون أنه، منذ اقتحام لبيرات، تم تحصينه تحصينا جيدا، ويعرفون أن الفيلق الذي يتواجد فيه يُقدر ب 2000 جندي، وحتى يعتقدون أن في القرية يوجد مدنيون. بما أن الزاك كان ينتظر أن يتم اقتحامه والسيطرة عليه بين الفينة والأخرى، فهذا يعني أن الفيلق الذي يرابط فيه كان، ربما، قد أعد مفاجأة مستفيدا من الطبيعية الصخرية المهمة في وضعية الدفاع. يوم 7 ديسمبر تراجع المقاتلون عن اقتحامه، وأعادوا الكرة يومي 8 و9 ديسمبر 1979م. يوم 8 ديسمبر، حامت طائرة ميراج F1CH T فوق الوركزيز لتقصف المقاتلين الذين كانوا يهاجمونه. كان في مقعد قيادتها الرائد معطاوي محجوب العربي، وهو شاب معتز بنفسه يحلم بجائزة قدرها 2 مليون فرنك على كل نقالة صحراوية يحطمها. دار بميراجه عدة مرات فوق المقاتلين الصحراويين، وأصاب إحدى مدرعاتهم. حتى يؤكد لقيادته أنه أصاب المدرعة كان عليه أن يصورها عن قرب. لكن حين ظن أنه يستطيع أن يصور الآلية المصابة عن قرب انطلق صاروخ من نوع strela 9K32 وأصاب الطائرة فسقطت. قفز معطاوي من طائرته فوقع في يدي المقاتلين الصحراويين. بعد سنوات في الأسر حاول معطاوي الفرار بطريقة غبية. أختبأ في حاوية حديدية بها أكياس العدس في الهلال الاحمر الصحراوي فوقعت عليه الاكياس ومات.    

خطة التراجع عن اقتحام الزاك، قابلتها خطة حصاره الشهير. حين أصبحت الزاك مفصولة عن عمقها الاستراتيجي ومحاصرة، لجأ الجيش الصحراوي إلى جعلها كطعم وكوسيلة استدراج للجيش المغربي. كان يقوم بمناوشتها ومهاجمتها وقصفها من حين لآخر لاستنزافها. بذلك العمل كان يريد استدراج القوات المغربية لنجدتها وفك الحصار عنها فتقع القوات الناجدة في الفخ، خاصة في الفتحة الوحيدة التي تسمى " نقاب الوركزيز". إذا تعدت القوات الناجدة الفتحة المذكورة يمكن الالتفاف عليها من الخلف وإبادتها. تكلفت الناحيتان الأولى والخامسة بمهاجمة الزاك ومناوشته من حين لآخر: تهاجمه الناحية الخامسة من الجنوب الشرقي وتهاجمه الناحية الأولى من الجنوب الشرقي. بعد شهر ونصف من الحصار نفذ المخزون الغذائي ونفذ الماء ونفذت الذخيرة، وبدأ الموت يحوم حول الموقع، لكن لم يأت الجيش المغربي للنجدة. يقول المقاتلون الصحراويون الذين شاركوا في ذلك الحصار:" أصبح الخبز والسردين والماء المعدني يأتي إليهم عن طريق الطائرات."  لمدة ثلاثة أشهر تقريبا وحامية الزاك على هذه الحال حتى أصبحت تهدد بالاستسلام. لكن حتى الطائرات التي كانت تنقل المؤن كانت عرضة للصواريخ، وكانت تتحين الفرصة كي تأتي بسرعة وترمي حمولتها ثم تهرب. بدأ الجوع يفعل مفعوله بين الجنود، وبدأ التمرد والتململ. حسب المقاتلين الذين تواجدوا في المكان:" أصبحوا يسمعون في جهاز الإرسال الفيلق الموجود في الزاك يهدد قيادته أنه إذا لم يتم فك الحصار سيسلم نفسه للبوليساريو." تهديد خطير جعل القيادة المغربية تتحرك.  

خارج الزاك أدْخل الجيش الصحراوي السلاح والهاونات وراجمات الصواريخ إلى تلك المنطقة، وبدأت النواحي والكتائب تخرج وتدخل بحرية، ومنها تنطلق للاستطلاع والهجوم في جنوب المغرب. باختصار، أصبحت جبال الوركزيز، داخل التراب المغربي، خاصة وادي تيغزرت، هي مركز العمليات المتقدم للجيش الصحراوي، وأصبح الرئيس الصحراوي ووزير الدفاع وقيادة العمليات وقادة النواحي يقيمون هناك متى شاءوا. يتبع


blog-sahara.blogspot.com.es

السيد حمدي يحظيه


يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء