المقاومة الصحراوية السلمية: انتفاضة سنة 1999م أو انتفاضة لا بديل عن تقرير المصير(دراسة)


Resultado de imagen de ‫انتفاضة العيون‬‎أ)  مشعل العمل الحقوقي في يد والعلم الصحراوي في اليد الأخرى.
في الداخل كان ستار الظلام الذي يحيط مجريات الانتفاضة كثيفا جدا، وكان لا مناص من تكسيره. في الميدان كان تناغم فعل الانتفاضة مع عمل تحديد الهوية المتعثر يربك الاحتلال ويخلط أوراقه ويفشل حساباته.
كان شهرا سبتمبر – أكتوبر 99م مهمين في تاريخ الكفاح السلمي الصحراوي. عرفا بداية مخاض العمل الحقوقي الصحراوي المنظم، وفيهما رسمت الانتفاضة السلمية مسارها المستقبلي أيضا: الاستمرارية حتى تحقيق الهدف. ففي هذين الشهرين قرر الصحراويون في المدن المحتلة، خاصة العيون، كسر الحصار بالتظاهر والاحتجاج وإعلان انتفاضة سلمية مفتوحة حتى النهاية.
ففي العيون، ابتداء شهر سبتمبر إلى غاية أكتوبر 99، أحتشد الشباب الصحراوي في إحدى الساحات الكبرى وبنى خياما كبيرة، وبدأ يلوح بالأعلام ويردد الشعارات الصحراوية. كانت المظاهرة تكبر وتتضاعف مع الوقت حتى فجرت الغضب في كل النفوس وكل الشوارع. كان الحدث أشبه بالمظاهرات التي حدثت في الزملة سنة 1970م، وفي لبنان واوكرانيا لإسقاط الحكومات. شارك الصحراويون كلهم في الحدث كأنما كانوا ينتظرون حدوثه بحرقة وغضب.. تقدم المظاهرة الشباب والناجون من السجون المغربية، وأبطال الانتفاضات السابقة الذين تحولوا إلى حقوقيين عالميين يدافعون عن حقوق شعب كله في التحرر من الاحتلال. دام الاعتصام اثنا عشر يوما، وأتخذ من ساحة قريبة من فندق نقجير قرب أماكن تواجد البعثة الأممية مكانا له. تمت محاصرة المكان جيدا في انتظار أن يتعب المتظاهرون وينصرفوا، لكنهم بقوا في أماكنهم. حين راءت قوات الأمن المغربية توافد الكثير من الناس إلى المكان، وانضمامهم للمظاهرة الصحراوية، نظمت هجوما همجيا شارك فيه العسكر والقوات الخاصة وقوات أمنية أخرى تلبس الملابس المدنية مدججة بالعصي المعدنية والهراوات. ورغم أن المتظاهرين رفضوا الدخول في صدام مادي مع قوات التدخل، إلا أن الأوامر الموجهة من طرف محمد السادس كانت قاسية، وكانت تقول انه يجب القضاء على التظاهرة الصحراوية بأي ثمن حتى لا تنتقل العدوى إلى المدن المغربية التي ترتعد هي الأخرى فوق بركان العصيان. استعمل الرصاص المطاطي والغازات المسيلة للدموع، ودهست السيارات والدراجات النارية المتظاهرين، وتم شحن الذين رفضوا التفرق في شاحنات ورمي الكثير منهم مئات الكيلومترات بعيدا عن العيون في الصحراء. امتلأت السجون المعروفة والسرية بالمعتقلين، فازداد التوتر أكثر، وأصبحت الصحراء كلها وطنا منتفضا.
        
في الأيام الموالية اشتعلت الانتفاضة ثانية وبأكثر مشاركة، وحمل المتظاهرون هذه المرة أعلاما صحراوية كبيرة، بعضها علق على أسلاك الكهرباء والبعض الأخر رمي في سماء المدينة بواسطة بالونات أطفال. هذه المرة شارك فيها، بالإضافة إلى الصحراويين، الكثير من المستوطنين المغاربة الذين أتت بهم الحكومة كي يشاركوا في الاستفتاء. منذ ذلك التاريخ صارت الصحراء الغربية مسرحا مفتوحا للانتفاضة المطالبة بالاستقلال، وحملت شعار " لا بديل عن تقرير المصير". كل الشعب الصحراوي شارك فيها وبدون استثناء، فهي انتفاضة مفتوحة من أجل الحصول على حق مغتصب سبَّبَ اغتصابه ضياع الكثير من الحقوق المدنية الأخرى والتي لا يمكن استرجاعها ما لم يسترجع هو.
وكما أُريد لها، كانت انتفاضة 99م إعلانا عن تأسيس وتنظيم العمل الحقوقي الصحراوي وتفعيله. فمشاركة المعتقلين الصحراويين السابقين على رأس تلك الانتفاضة، حاملين جروحهم كشعارات، ومطالبتهم بفتح ملف مواطنيهم المفقودين جعل أمثالهم المغاربة يدخلون معركة مع المملكة لتتبنى مطالبهم الحقوقية. ففي نوفمبر99م، بعيد المظاهرة الصحراوية مباشرة، قامت وزارة الداخلية بتنشيط منتدى الحقيقة والإنصاف الذي كان مجمدا، والذي يبحث في تفاصيل المأساة التي سببها النظام المغربي لشعبه إبان سنوات الجمر والرصاص وتازمامارت.
من جهة أخرى حدث ضغط دولي كبير على الملك المغربي كي يحقق في انتفاضة العيون، فشكل يوم 6كتوبر99م لجنة للتحقيق في تلك الانتفاضة وهي أول مرة يفعل فيها ملك عاصي، متعنت ذلك.

ومن قطاف تلك الانتفاضة أيضا التأسيس للعمل الحقوقي، وتكتل الحقوقيين في جمعيات صحراوية لتوسيع دائرة نشاطاتهم بطريقة قانونية حضارية مضمونة. لقد تأكد لهم أن السياج الذي يحيط بقضيتهم والفظاظة التي تخلق آلام شعبهم لن يقلل من غلوائها سوى العمل الحقوقي المنظم، والخطاب الصادق والواقعي الموجه إلى الرأي العام العالمي والوطني. قام هؤلاء بتأسيس منتديات وجمعيات حقوقية لتوحيد جهدهم وكلمتهم حتى يتمكنوا من مخاطبة المنظمات الدولية بصوت واحد متحد. فمن قبل كانوا موجودين ونشطين، خاصة بعد إطلاق سراح الكثير منهم من مكونة وأكدز، لكن ظلوا يغردون فرادى فكانت كلمتهم تضيع في صخب الدعاية المغربية المعكرة لأصواتهم والمشوشة على فعلهم.
 حين أحست السلطات المغربية بالحراك الحقوقي الصحراوي المتناغم مع الانتفاضة أقفلت كل الأبواب والملفات في وجه كل صحراوي يريد أن يؤسس جمعية أو اتحادا أو فرعا تشم فيه رائحة الدفاع عن حقوق الصحراويين، أو يشار إليه انه يريد أن يتحدث بلغة معاكسة للغة القصر في ما يخص قضية الصحراء الغربية.
ورغم المنع والحظر والمتابعة المكثفة إلا أن الحقوقيين الصحراويون أسسوا الجمعيات التي يريدون، والمنتديات التي تنسجم طبيعة توجهها مع ما يطمح إليه الشعب الصحراوي المظلوم.  إن الإصرار على تأسيس مثل هذه الجمعيات الحقوقية، التي لا تريد المملكة الترخيص لها، يدخل في إطار تنويع أساليب الانتفاضة السلمية الصحراوية. فتأسيس منتديات وجمعيات حقوقية صحراوية محضة، وبداية ممارستها لأنشطتها، دون سابق موافقة رسمية من سلطات الاحتلال، يدفع هذا الأخير إلى الدخول معها في صدام، وهذا في حد ذاته عامل مهم يحفز الانتفاضة الميدانية ويؤجج ثورتها. فبطريقة ذكية أسس الحقوقيون الصحراويون "منتدى الحقيقة والإنصاف فرع الصحراء الغربية"، وهو جمعية متخصصة في الدفاع عن الحقوق المدنية في المدن المحتلة، خاصة كشف مصير المفقودين السياسيين الصحراويين في السجون المغربية. ورغم أن المنتدى رُفض اعتماده في البداية إلا أن الضغط الحقوقي الصحراوي والدولي أرغما المملكة على اعتماده على مضض. لكن الاعتراف به لم يدم طويلا، فحين قام المنتدى المذكور باللقاء مع وفد الاتحاد الأوروبي في العيون بتاريخ 12 ديسمبر 2002م، وجد النظام الملكي الحجة لسحب اعتماده وتشميع ملفه. التجمع الثاني الحقوقي المهم الذي ظهر في الصحراء الغربية المحتلة، هو "الجمعية الصحراوية لضحايا الانتهاكات الجسيمة المرتكبة من طرف المملكة المغربية بعد الاحتلال"، وهي جمعية تأسست 7 مايو 2005م، في خضم الأيام الحامية الوطيس للانتفاضة، تحت شعار " لا إنصاف بدون حقيقة ولا مصالحة بدون حل شامل". رفضت الإدارة المغربية الترخيص لها مرارا، ولم تفعل ذلك إلا مضطرة سنة 2006م.  بالإضافة إلى هاتين الجمعيتين هناك "الجمعية المغربية لحقوق الإنسان فرع الصحراء الغربية" التي أعيتها وزارة الداخلية بالمماطلات البيروقراطية المتعمدة بحجة دفاعها عن حقوق مواطنين يطالبون بالاستقلال.
ومع انتشار الفكر الحقوقي في الصحراء الغربية أكثر، تأسس المزيد من التجمعات الحقوقية التي حرمت بتعسف من حق الترخيص مثل لجنة التنسيق الحقوقي، ولجنة عائلات المفقودين الصحراويين. وبرغم هذا الإكراه، واصلت هذه الفعاليات الحقوقية عملها تدافع عن التظلمات الواقعة على الصحراويين من طرف المملكة معتمدة على المؤازرة التي تلقاها من المنظمات الحقوقية الدولية مثل مرصد حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية، وعلى الغطاء النظري الذي يوفره لها القانون الدولي خاصة المطالبة بحق في تقرير المصير.
ومع الوقت بدأ المناخ الحقوقي يسود المنطقة كلها، وتواصل تكوين الجمعيات الصحراوية التي كثفت من نشاطها الجمعوي وتحديها للقوة المحتلة المديرة للإقليم. إن الاعتراف العالمي للحقوقيين الصحراويين بشرعية عملهم ونضالهم، جعلهم يؤسسون جمعيات أخرى مثل "جمعية الدفاع عن حق تقرير المصير" التي أسسها كبير الحقوقيين الصحراويين المناضل سيدي محمد ددش. فلولا الاستماتة في الدفاع عن هذا الحق ما كان النظام المغربي سمح لمؤسس هذه الجمعية أن يبقى طليقا يتجول في الشوارع. إن ذكر كلمة تقرير المصير كانت تلقي بقائلها في السجن أو إلى الحتف، أما الآن فقد فرض الصحراويون بنضالهم أن تكون هناك جمعيات تحمل مثل هذا الإسم.
وبالإضافة إلى رفض الترخيص للجمعيات فقد تم تضييق مجال تحرك النشطاء الحقوقيين من طرف النظام المخزني وتصنيفهم في خانة المعاديين للمملكة المغربية. فحسب تقرير المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والصادر في سنة 2006م فإن" العديد من النشطاء الحقوقيين الصحراويين كانوا عرضة للاستهداف، والبعض منهم تمت محاكمته لأنهم عبروا علانية عن  وجهات نظرهم التي لا تتماشى مع وجهة النظر الرسمية المغربية بخصوص قضية الصحراء الغربية، بل تدافع عن تقرير المصير."()
وبالرغم من هذه الاكراهات التي تعرض لها الحقوقيون في الإقليم إلا أن عملهم ونشاطهم أعطى للانتفاضة بعدا إعلاميا وجغرافياً، وكان سندا حقيقيا لها، فهم مدافعون عن حقوق أبناء شعبهم في تقرير المصير وحقوقهم في العيش بحرية في وطنهم.

كل ما حدث من أنشطة حقوقية في سنة 2001م كان إضافة مهمة للعمل الحقوقي والنضالي الصحراوي. فبفضل تضافر الجهود تم تطوير العمل وتوحيد الإستراتيجية، وبدأ المواطنون يتلقون أساليب العمل الحقوقي السياسي الذي يطالب بالحق الشرعي في الاستقلال وفي الحقوق المهضومة الأخرى. كان أكبر عمل موحد قام به الحقوقيون المعتقلون في السجن لكحل بالعيون والذين عددهم 131، هو شروعهم جماعيا في خوض عملية إضراب موحد عن الطعام ابتداء من 24 ديسمبر 2001م للمطالبة بحقوقهم. فما أن حل شهر يناير من سنة 2002م حتى شاع هذا العمل الحقوقي النضالي، وسُلطت عليه الأضواء، وبدأ العالم يتحدث عن سجن أسمه " الحبس لكحل" لا يبتعد كثيرا عن سجن أبو غريب من حيث البشاعة.

إن دخول مجموعة 131 في الإضراب زاد من حراك الانتفاضة وتململ الشارع الصحراوي، وزاد من ضغط المنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان. بدأت أمهات السجناء يتجمعن أمام السجن ويضغطن على السلطات الاستعمارية، وما لبث الاعتصام أن تحول إلى مظاهرات وعصيان. في الشارع انتقل ربيع الانتفاضة الصحراوية إلى كل مكان يتواجد فيه صحراوي، وأصبحت الصحراء المحتلة بؤرة كفاح سلمي حقوقي حقيقي.(يتبع)

يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء