حين استراح واصل سيره يفكر في أشياء أخرى.
حين يمر بالقرب من بعض السكان يقولون
عنه:" كان الرجل قد خاض الحرب ببطولة نادرة في التاريخ، وكان يقول هو ورفاقه
في لحظة مجد أنهم يستطيعون أن "يهزموا كل جيوش العالم مجتمعة بما فيها جيش
أمريكا"...
المجد الذي صنعه ببارود بندقيته يملأه، ويُنبت
له أجنحة من فخر... عاش عليه رغم ألم
الجرح الذي مضى عليه زمن يعد بالسنوات. "ألف لعنة على هذا الجرح. لو كانت
الشظايا التي أصابت الساق قاتلة لكان ذلك أفضل...لكنه القدر الذي لا رجعة فيه ولا
مفر منه."
الذكريات كنوتات موسيقية\ كموج هادر توقظه كلما
غزاه فيضان النسيان:" دفن مئات الرفاق الشهداء بيده؛ سال دمه وسقى الوطن
مثلهم؛ كل ليلة يراهم في منامه؛ أبناؤهم كبروا وصاروا رجالا ويخشى إن أي منهم قد
لا يذكر تاريخ استشهاد والده ولا اسم المعركة التي سقط فيها؛ يخشى بألم أن صورهم
قد تُنسى في غضون سنوات وسينساهم الناس. "تلك مأساة حقيقية. لم يبق منهم سوى
صور بالأبيض والأسود.. للأسف.. للأسف"..
النسيان يزحف: ليل مظلم ثقيل ومخيف؛ رمال تتقدم
ببطء لتدفن كل ما يأتي في طريقها؛ إعصار لا تقف في وجهه إلا الصخور القوية.
هو باق
متشبث بالعهد، قابض عليه بقلبه وعقله بقوة لأن لا معنى لحياته بدونه.. هو باق أو
كما يقول له الذين يعرفونه:" أنه شهيد حي في الدنيا".
الجرح شهادة غير مزورة لمشاركته في القتال؛
القتال الذي لا يعرف كل الرجال ما معناه للاسف.. "تلك مأساة أخرى." مع
الجرح يظن انه لا يحتاج إلى أوراق أو إلى جواز سفر في الصحراء.. الوطن، صحراء
شاسعة من الامتداد اللانهائي في كل الاتجاهات، تغري بالموت والحياة في آن معا.
إنها قاحلة\ صعبة\ ساخنة\ رياحها كثيرة\ باردة، لكنها لغز في صورة وطن أو العكس..
أحب مثل آلاف الرجال أن يموت من أجلها ويدفن في قلبها... هذا هو اللغز الذي يحيره
اليوم وسيحيره غدا... يوم جرحه رأى قطرات من دمه تسيل ويبتلعها الرمل بعطش، بصمت
وبسرعة أيضا. يوم وصورة لا يمكن نسيانهما ولا فتنتهما.. منظر الوطن يشرب من دم
مدافع عنه... منظر رجل جريح يكتب على صخرة اسمه واسم وطنه بدمه النازف.
*********
وتفاجأ أن الأطباء ينصحونه بالسفر إلى الخارج
للعلاج؛" فالجرح – حسب تقاريرهم- قد ينتقم ويثأر من الجسد كله مع مرور الوقت،
ويتمكن منه في أية لحظة.. "
هو يقول في أعماق ذاته "الموت لا بد منه،
لكن لا حرب الآن حتى تكون الموت شريفة... الموت بأي طريقة أخرى لا معنى
لها.."
ينصحونه بالسفر إلى الخارج... إلى أين
بالضبط...؟ إلى أسبانيا... إلى بلاد
الاستعمار القديم الذي حاربه بالنار والبارود والدم... " الأسبان هم الذين
جرحوني معنويا حين باعوا وطني فكيف سيداوونني..؟"
مأساة
أخرى تكتب تاريخ ميلادها في سجل المآسي الطويل...!!!!
انتظار أوراق السفر مثل انتظار القيامة\ انتظار سقوط الثلج في الصحراء\ المعجزات\
الخوارق... في الأخير منحه الطفل الرسام، عبدو، مكانه في جولة إلى أسبانيا.
في المطار التقى صديقه سعيد، جريح أخر مثله. في
قاعة الانتظار حكى له سعيد قصته مع شاحنة بلا سلالم حاول تسلقها ذات يوم. ضحكوا
جميعا من سخافة الواقع. كان في المطار أيضا المري الذي كان يودع ابنته الذاهبة
للعلاج في إيطاليا. ابنته مصابة برعب يسكنها منذ قصفت الطائرات مخيم ام دريكة.
أعطوه عنوان موسطاش، مقاتل مهاجر منذ مدة إلى أسبانيا.
هاهو في أسبانيا بعد انتظار طويل، طويل، طويل.
استقبله موسطاش في المطار. أول نصيحة يسديها له المهاجرون بعد سلامهم عليه
"أبدأ في إجراءات الحصول على الأوراق". كل من يلتقيه يحثه على الحصول
على أوراق الإقامة ولما لا الجنسية... كل حديث المهاجرين وأسئلتهم تدور وتلف وتتفق
على هذا الموضوع...
" إذا كانت عندك أوراق أسبانيا فاذهب إلى
المدينة كذا وابحث عن كذا، وأفعل كذا.." إذا كانت لديك بطاقة أسبانيا فالأمر
سهل مثل إعداد شاي في دفء شجرة طلح..."
لكنه كان قد رمى كل أوراق الاستعمار واحرقها في
يوم ساخن بدون ندم. " ليست لدي أوراق أسبانيا. أحرقت كل شيء". يضحك
بكبرياء. يفكر أن فعله ذلك كان معادلا فنيا لفسخ العلاقة التي كانت تربطه مع
الاستعمار بصورة لا ردة فيها..
يقولون له:" ذلك خطأ فادح. حذار مرة أخرى
أن تحرق ورقة أو ترميها حتى لو كانت تذكرة سفر في قطار بين قرية وأخرى.. الأوراق
لا تُحرق". ويضحكون.
ويضحك في أعماقه من الهوة السحيقة بين تفكيره
وتفكيرهم... ويقول له أحدهم:" مادمت أحرقت أوراق أسبانيا، فلا شك أنهم
يحتفظون لك بالبصمة ومن السهل الحصول عليها. أذهب إلى الشرطة وابصم عندهم وسيبحثون
عن بصماتك في سجلاتهم.. إنهم ليسوا مثلنا، لقد عثر البعض عندهم على بصمات جده
العاشر..." ويضحكون من جديد.
وتزداد الهوة عمقا بينه معهم... يصبح الجرح
جرحان: جسدي غائر وجرح نفسي أغور منه.." لو كنت استشهدت كان ذلك أفضل."
ويقولون له إمعانا في تذويب قناعته"
الحصول على الأوراق لا يعني أنك أصبحت مواطنا أسبانياً.. الحصول عليها فقط لتسهيل
تنقلك وقت تشأ دون انتظار الأوراق الصعبة الأخرى. أنت أحوج إنسان إليها".
وينظرون إلى جرحه بتعاطف.
في المهجر التقى مع مقاتلين آخرين، طلاب،
متخرجين من كوبا. الكثير منهم تغيرت ملامحه. وحده موسطاش لم يحلق وجهه؛ لا زال
بموسطاشه الكث الكبير، ولا زالت ملامحه كما عرفها منذ سنوات نسى عددها. موسطاش هو
الآخر كان يبحث عن الأوراق. التقى مع أصدقاء ما كان يظن أنهم سيغادرون المخيم
اللاجئ.
ويأتونه بالورقة الممتلئة بالإجراءات والمحرمات
والشروط الواجب توفرها فيه حتى يحصل على الجنسية. قرأها عليه أحدهم، وكان من ضمنها
"أن يمزق أوراق جنسيته الأولى بيده أو يمزقونها أمامه، يسلم كل ما معه من
أوراق قديمة، وإذا مات سيدفن هنا، في بلد الجنسية الجديدة..."
لم يعد قادرا على الاستماع لما تبقى من لائحة
الشروط السيئة التي تحط من الكرامة- حسب تعبيره.
بدأ يتصور الصحراء الشاسعة المغرية بالموت
والحياة، المغرية بالدفن فيها. لم يعد يحس بألم الجرح الجسدي بقدر إحساسه بالجرح
النفسي الذي أصابه وهو يستمع لائحة الشروط... الصحراء والموت أمام خياله، يتصور
ثمة نسر يحلق فوق قمة جبل أسمه " رغيوة"، ويهوى ثم يطير مرة أخرى، يتخيل
القبر الذي حُفر له يوم جرحه ثم رُدم لأن الحياة عادت إلى جسده في أخر لحظة. يضحك مغموما
وينظر في المرآة إلى شعره الأبيض، يستحضر تاريخه ونوتات الذكريات التي يعزفها
الماضي على سمعه كل يوم...يقرر العودة إلى خندقه الذي لم تغطيه الرمال بعد.. يقرر
العودة إلي الصخرة التي توجد قرب الخندق وكتب عليها بدمه يوم جُرح. فهناك، بكل
تأكيد، ثمة مكان جُرح فيه ودَفن آلاف
الرفاق على جانبيه، وكان سيدفن معهم....
يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء