يقول سكان مخيمنا أن علي المري، الرجل الذي كان
يقسم كل مرة أن لا يعود من خندقه إلا منتصرا أو شهيدا حدثت له قصة أخرى: أصبح يحرس
الشمس.
قبل إن يعود أخر مرة من رحلته إلى خندق المراقبة
كانت زوجته تحلم إن يجلب لها قماشا تخيط منه عَلماً كبيرا، فهي معروفة، في المخيم،
بامتلاك عَلَم كبير. أما ابنته البالغة
فقد كانت تحلم أن يجلب لها ملحفة نيلة تلبسها ليلة الحفلة، ويجلب لها خلاخل ومشطا
من العقيق تمشط به شعرها وقواقع نادرة تعلقها على ضفيرتها. كان ابنه الصغير ينتظر
منه طائرة ورقية ملونة ليطيًرُها فوق
المخيم ليراها كل الأطفال. لكن حين عاد من خندق الحرب البارد إلى المخيم، أحس أن
في عمقه جرح لا أحد يراه. دخل الخيمة وجلس صامتا ينظر إلى قطرات الشاي الحمراء
تنصب في الكؤوس ذات الرغوة البيضاء..
وفتح لزوجته حقيبته المغبرة.غمرتها رائحة الدم
والبارود والدخان وغبار أخر معركة.. ورائحة شجر الصحراء. كان في حقيبته حين عاد إلى المخيم حزمة من
مساويك شجر أتيل، وبضعة رصاصات فارغة، وملابس قتال عليها آثار دم. هذا ما كان هناك
فقط.
وتسأله زوجته وهي تتفحص الملابس في الحقيبة:
" منذ متى وهذا الدم هنا.؟
يقول: لا أعرف
وأخيرا، يتذكر أنه لا يعرف دم أي الرفاق هذا،
ومنذ متى وهو هنا. كان الجرحى والشهداء أكثر من أن يمكن تذكُرهم. لا يتذكر إن كان
هذا دمه حين جُرح ذات يوم أم دم الجريح عبد لله أم دم سعيد أم دم أحد الشهداء..
ويقول:" لا اعرف دم مَنْ هذا، لكنه حتما
دمي أو دم أحد الشهداء أو أحد الجرحى، فكل الدماء الحرة متشابهة."
وتستفزه زوجته مرة أخرى وهي تنظر إلى بعض
رصاصات فارغة: "ما فائدة هذه الرصاصات الفارغة الآن.؟
ويقول في سره:" كنت أريد أن أضعها على قبر
صديق شهيد، لكن أخبار السلام لم تمهلني كي
أبحث عن نصبه في الظلام، وأخاف الآن أن لا أهتدي إليه إذا عدت ابحث عنه، فالريح
تعصف كل دقيقة لتدفن كل ما تستطيع".
ويسأل نفسه ماذا لو ضاع قبر الصديق الشهيد في
الصحراء.؟ماذا سيفعل.؟
يقرر أن يحتفظ بالرصاصات الفارغة في مكان ما لا
تراه زوجته، وإذا لم يهتدي إلى قبر الشهيد سيحفر قبرا أخرا رمزيا، ويضع عنده تلك
الرصاصات للذكرى.
********
ها هو عاد في إجازة جريحا في الداخل من أخر معركة
قبل حلول السلام.
لم يجلب معه لا قماش ولا ريش النعام ولا خلاخل
الفضة، ولا حتى طائرة من ورق.
عاد يبتسم تلك البسمة الدافئة دفء جمر الطلح،
ويحلم حلما كبيرا بوطن، يفكر كيف سيقنع زوجته أن لا قماش ولا أعلام ولا فساتين ولا
خلاخل ولا دمى قبل إن يكون هناك وطن. حين ينظر ولده إلى وجهه يتذكر الوطن
والشهداء، وحين ينظر إلى وجه جرحه يتذكر الحرب، وبين الوطن والحرب يقطر دمه هو في
داخله وعلى الثرى.
هو وجرحه الداخلي العميق ورفاقه - فقط - يعرفون
الفرق بين الوطن المحرر بالدم، وبين الوطن المحرر بالكلام، لكن هو وجرحه – وحدهما-
شاهدان على هذا الزمن. ويدقق ابنه النظر فيه تاريخا، وجها، جرحا ووطنا ويربت على
كتفيه. تقول له عيناه: دمك لن يضيع هباء، سنبني منه وطنا ونرسم آلاف الطائرات
الورقية والفساتين. سنرسم منه شمسا لا تغيب، سنشمه يوما مع النسائم وسيضيء هذا
الفضاء. سنرسم منه آلاف اللوحات، فكل شيء يضيع ويُنسى إلا دماء الشهداء.
تنظر
ابنته إليه وتقول في أعماقها: أبي.. يا أبي. يكفينا الفخر الذي صنعت لكل سكان
المخيم.
تضع زوجته علما كبيرا قديما باهتا ذا رائحة عتيقة
على عنقه. يشم رائحة وطن مختفي خلق الكثير المآسي. يشم رائحة الوطن ويتذكر
المظاهرات في الزملة. يبتسم.
يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء