المرأة الصحراوية: في اللجوء( دراسة يتبع)




وإمعانا في التحدي أعلنوا عن دولة في اللجوء.
Resultado de imagen de mujer saharauiالبعض من اللاجئات بنى ملحفة كخيمة فوق رؤوس أولادهن، البعض بنى قطعا من القماش، أما أولئك اللاتي لم يكن يملكن شيئا، أي شيء، فقد بقين تحت رحمة عراء الحمادة ينتظرن الله والمساعدات الإنسانية. مرت عدة أشهر قبل إن يعرف العالم والهيئات الدولية أن نصف الشعب الصحراوي قد تُرك يواجه مصيره في الحمادة، منطقة غير مرسومة، لعدم أهميتها، في الخريطة. كان على النساء الصحراويات أن يبقين في الحمادة كلاجئات بعد ذهاب الرجال إلى الحرب. وليس هذا فقط؛ كان عليهن أيضا أن يتأقلمن مع المكان، يعشن فيه ويخلقن فيه الحياة وإلا يموت الجميع مثل الجمال التي غامرت ذات مرة بالمرور من هنا ونفقت ولم تبقى سوى عظامها أو مثل أشجار الطلح غير المحظوظة التي نبتت هنا. كان الخيار وحيدا لا ثاني له: العيش في اللجوء، وفي الحمادة بالذات لأنه ببساطة لا يوجد مكان آخر يمكن أن يكون ملجأً.. هناك أقام الصحراويون أو، على وجه التحديد، النساء مخيماتهم التي ستكون عدة سنوات بعد ذلك أشهر مخيمات لاجئة في التاريخ والجغرافيا؛ سنوات أيضا بعد ذلك ستصبح تلك المخيمات مشهورة بالصبر والانتظار وصعوبة الحياة وبقدرة النساء على زرع الأمل ونسجه في أقسى مكان في الكرة الأرضية. لكن رغم الواقع الذي كان ماثلا للجميع لم تفقد النساء القدرة على الحلم بالعودة ذات يوم إلى وطنهن؛ كن مع مطلع كل شمس يقف على التلال يحلمن إن تنتهي تلك المأساة المرعبة. الكل ظن في البداية ان واقع اللجوء قد يدوم في الحمادة عدة اشهر وربما سنة على أكثر تقدير. كانوا كلهم متفقين أن الحمادة ليست وطنا، ليست مسكنا؛ إنها فقط ملجأ اضطراري مؤقت إلى إن يأتي اليوم الذي تحدث فيه العودة. لا يوجد أي صحراوي فكر ذات يوم أن يبقى في ذلك اللجوء إلى ما لانهاية. أكثر من ذلك لم يفكر أيضا أي صحراوي، ولو للحظة واحدة، أن اللجوء قد يطول مثلما طال بعد ذلك. كانوا كلهم يظنون أن الحرب والاحتلال هي مسالة شهور أو سنوات فقط، لا أكثر ولا أقل، وأن العالم والأمم المتحدة سيتدخلون في الأخير لإرغام المغرب على سحب قواته من الإقليم الصحراوي المحتل.
مرَّ الوقت بطيئا؛ لم يتدخل العالم وكانت الظروف تسوء يوما بعد آخر. فتحت أكثر من جبهة بابها؛ كان على الصحراويين أن يكافحوا في اتجاهات عدة؛ من جانب عليهم أن يقاتلوا في ميدان المعركة ليثبوا وجودهم ويجعلوا العالم ينظر إليهم؛ من جانب آخر عليهم أن يجعلوا حياتهم في المخيمات منظمة وقابلة للاستمرار وان ينهضوا بدولتهم. أما في الخارج فكان عليهم أن يجعلوا العالم يعرف من هم وأين هم ويجلبوا الاعتراف لدولتهم الحديثة..

فُتحت الحرب على كل الجبهات في وقت واحد، لكن الجبهة الداخلية كانت أكثر تعقيدا حتى من الجبهة العسكرية؛ هي العماد، القاعدة الخلفية وهي التي يتركز عليها وجود الشعب والدولة، وباختصار، الجبهة الداخلية هي التي ستعكس تجليات الدولة الحديثة. .
على الصعيد الاجتماعي كان الوضع صعبا: حوالي نصف شعب يوجد في اللجوء في صحراء من العدم ويحتاج كل شيء ليحافظ على الحياة. أكثر من ذلك هو شعب في غالبيته المطلقة أميُ، جاهل خارج لتوه من قرن من الاستعمار، ومن سوء الحظ تواجد في مكان تكثر فيه الأمراض بسبب المناخ المعقد. أسوأ من ذلك أن الماء المتواجد في منطقة الحمادة هو مالح ومُر وقليل. إن وضع مثل هذا هو في الحقيقة صعبُُ ومزري ويجعل الحياة شبه مستحيلة أو صعبة التصور. الشيء الوحيد الذي كان بين الأيدي آنذاك كان هو الإصرار على المقاومة والحلم بالعودة. هذا كل ما كان في تلك البقعة الملتهبة. حتى وإن تُرك هؤلاء السكان وحدهم من طرف العالم ليواجهوا مصيرهم كانوا يريدون فرض واقع آخر. كان عليهم أن يؤسسوا في تلك الحمادة نظاما تعليما وصحيا واجتماعيا يسمح لهم بالمقاومة في المستقبل. كانوا يحتاجون كل شيء من حبة الاسبيرين إلى القلم وكليو الدقيق.

وتماما كما حدث في سنة 1973م، حين تم إفراغ المدن والمداشر من الرجال ليحاربوا ضد أسبانيا، تكرر نفس الشيء سنة 1976م. مباشرة بعد نهاية المطاردة والقصف واستعادة الناس لأنفاسهم، قرر الصحراويون رد الضربة للمحتلين. أعلنت البوليساريو التعبئة الشاملة وطلبت ممن تَبقى من الرجال في المخيمات الالتحاق بجبهات القتال. تدخَّل عامل الثقافة مرة أخرى؛ عيب ما بعده عيب التخلف عن الجهاد والقتال، خاصة في ظروف كتلك. بدأ الرجال يتركون المخيمات وعائلاتهم واحد بعد الأخر، وفي أيام قليلة تحولت المخيمات إلى تجمعات نسائية كبيرة.. وليس نداء الواجب فقط هو ما كان حاسما في جعل الرجال يتركون للمخيمات: النساء أيضا والأطفال شاركوا بدورهم في حث الرجال على مغادرة المخيمات والذهاب إلى القتال. كان دور الأطفال والنساء أكثر تأثيرا، ربما، على الرجال من نداء البوليساريو ومن حتى نداء الواجب. رفض النساء والأطفال بقاء أي رجل بين صفوفهم؛ كانوا يقومون بتشويه أي رجل باق بينهم، إلى درجة أنهم كانوا يطاردون أي رجل تأخر عن القتال ويقولون له في الشوارع " ألبس ملحفة وأضفر شعرك.". كل الرجال، بما فيهم المرضى والمسنين، خرجوا من المخيمات والتحقوا بالجيش او بالمراكز العسكرية الخلفية.
وقت قليل بعد ذهاب الرجال إلى الحرب جاء الدور على الشبان. كان الشبان والتلاميذ في سن الدراسة مضطرين، من جهتهم، إلى الذهاب بعيدا عن المخيمات كي يواصلوا الدراسة في دول صديقة. ذهبوا إلى الجزائر وليبيا وكوبا؛ دول بعيدة وغير معروفة بالمطلق عند الصحراويين. إن ذهاب الشبان والتلاميذ إلى الخارج كان أصعب على النساء من ذهاب الرجال إلى الحرب.
ذهب الأطفال إلى الخارج للدراسة تاركين أماتهم وراءهم. وضع صعب جدا، لكن كان لا مفر منه. والمشكلة أن الأمهات اللاتي تركن أبناءهن يذهبون إلى الخارج لم يكن يعرفن متى يرجعون بالضبط: سنة، سنتان أو ربما أكثر. كان وضعا في غاية الصعوبة عاطفيا على الأمهات. البعض من أولئك الذين سافروا إلى كوبا لم يرجعوا إلا بعد عشرين سنة أو أكثر؛ أولئك الذين ذهبوا إلى الجزائر وليبيا كانوا يعودون لمدة شهرين في السنة فقط.
بين شروق شمس وآخر، وجدت النساء أنفسهن وجها لوجه أمام واقع صعب في مكان منسي من التاريخ والجغرافيا. كان عالمهن الجديد هو مخيمات غير منظمة تحتاج أن تُبنى من الصفر؛ أكثر من ذلك تحتاج أن تُبعث فيها الحياة وروح المقاومة. وجدن أنفسهن في قلب وميدان وجحيم معركة أخرى أصعب من الحرب؛ معركة لا يراق فيها الدم لكن يراق فيها الكثير من العرق والمعاناة. كن وحيدات في قلب تلك المنطقة المخيفة بعيدا عن الوطن وعن الرجال والأولاد؛ أصعب من ذلك أنه لا يكاد يمر يوم دون أن تأتي لائحة جديدة من الشهداء. كان عزاءهن الوحيد هو أنهن يعشن جارات ومتقاربات، يتعاطفن في كل شيء حتى على الحزن؛ كن يأكلن نفس اللقمة، يخطن نفس الخيمة، يبنين نفس المدرسة، يبكين مع كل امرأة فقدت شهيدا في المعركة؛ كن أيضا يحلمن ذات الحلم وهو إن يعدن ذات يوم إلى وطنهن وديارهن؛ يحلمن أن تنهي الحرب ويتحول المخيم إلى مخيم أفراح بدل مخيم أحزان على الشهداء الراحلين وعلى الأولاد المغادرين إلى المجهول. كانت هؤلاء النسوة يقمن بكل شيء معا: يبنين معا، يعملن معا، يشربن الشاي معا. كن كلهن صحراويات قادمات من كل بقاع الصحراء، من شمال موريتانيا، من جنوب المغرب؛ بعضهن قادمات من المدن وبعضهن من الأرياف.. كن تلك الأيام كتلة واحدة متماسكة تقوم بمهمة أسطورية في منفى صعب ووقت أصعب.

وإذا كانت الحمادة لم ترحمهن فإن الوقت أيضا لم يكن رحيما بينهن. وجدن أنفسهن في مكان صعب ووقت عصيب. لم يكن بين أيديهن تسيير شئون المخيمات فقط؛ كان عليهن أيضا بناء الدولة الصحراوية الفتية حجرا فحجرا. وضع صعب جدا؛ المكان هو الحمادة، الوقت وقت حرب وقتال، لا يوجد اقتصاد ولا أي شيء وهن نساء جاهلات متخلفات قادمات من مناطق مختلفة من تلك الصحراء الشاسعة. كيف يمكن أن ينهضن بدولة في ذلك المنفى القاسي.؟ كان عليهن أن يؤسسن الدولة ويجعلنها تقف على أعمدتها وإلا فإن الفشل سيكون مريرا والحلم قد يذهب أدراج الرياح.
منذ أول يوم لم تكن الحمادة رحيمة معهن؛ أبانت لهن وجهها الحقيقي المكفهر، كأنما كانت تقول لهن بلغة أخرى أن المكان الذي أقمن فيه خيامهن ودولتهن هو تاريخيا مكانا محجوزا للرياح الحمراء والحر والبرد والرمال.

يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء