قالوا أيضا:- يجب أن لا يخاف احد من بندقية
كانت تقف دون الشرف والوطن."
- قال آخرون: " إن بندقية أرعبت الأعداء
لن تقتل نفسا بريئة."
- لم يتكتم هو أيضا عليها أو يخزنها. أصبح
يصطحبها معه أينما يذهب، وبدأ الناس يخرجون لرؤيته وهو يحملها بين كثبان المخيم.
ورغم أن البندقية خطيرة أينما تواجدت إلاً أن السكان أحسوا اتجاهها بنوع من
التعاطف والاحترام. أصبحوا ينظرون إليها بفخر وإعجاب، بل أن أطفالهم بدؤوا يتجرؤوا
ويلمسونها دون خوف. أكثر من ذلك أن بعضهم طلب منه أن يطلق منها رصاصة في الهواء.
بعد أيام أطلقوا عليه اسم الجريح صاحب البندقية.
أثناء أحاديثه مع شلته الضيقة خاصة أحمد
الترية، موسطاش، المري والجرحى الآخرين محمد وعبد الله، كانوا يقولون له: معك حق.
أنت بلا بندقية لا تساوي بصلة.
حاول بعض السكان والمسئولين والعريفات - من
ضمنهن زوجته-، أكثر من مرة، إقناعه بتسليمها للمقاتلين أو وضعها في المتحف لكنه
رفض.
قال لهم غاضبا:- إنني لا أستطيع أن أتخلى عنها.
إنها جزء من تاريخي ووجودي، وإذا لم تبق عندي ستنسونني في أيام معدودة.
قالها وضحك.
حسب ملاحظة الشلة فإن ما يطرب نفس سيعد هو حديثه مع الأطفال عن بندقيته: يحدثهم
عن تاريخها واليوم الذي تسلمها فيه، وأول معركة شارك بها فيها وأول رصاصة أطلق
منها واليوم الذي جرح فيه....
- ويقول له واحد من جماعته:- لكن من المحتمل أن
تكون الحرب قد انتهت.
- يقول:- إنني أعيش ببندقيتي على الماضي وليس
على الحاضر والمستقبل.
- يقول له من جديد: حتى لو عادت الحرب فلن
تشارك أنت فيها بسبب جرحك.
- قال لهم وهو ينظر إلى الأفق البعيد:- لا أريد
أحدا أن يناقشني في أمر بندقيتي بعد اليوم.
- أصبح الناس، حتى شلته، يتحاشون الحديث معه عن
أمر البندقية حتى لا يعكرون صفاء حياته أو ينكئون بكلامهم بعضا من جراحه الخفية،
فهو حسب تعبير سكان المخيم جميعا:- كسب رضاهم منذ أطلق أول رصاصة من بندقيته ضد
الدبابات التي احتلت الوطن.
ولم يعد أحد من السكان يذكر البندقية أمامه إلا
بما يفرح نفسه هو، خاصة إذا ذكَّروه ببعض من تاريخه الذي صنعته طلقاتها. انشغل
الناس بالحديث عن الأمم المتحدة والسلام ونسوا بندقية الرجل.
*********
لم ينس
هو أصوات طلقات البندقية. تطورت علاقته بها أكثر. أصبحت أقرب إلى نفسه من أي شيء
أخر ثمين. أصبح يكلمها عن تاريخها ويداعبها بعيدا عن أنظار زوجته. لكن الحقيقة أن
الزوجة لم يكن يَخفى عليها أي شيء. كانت تراقب هذه العلاقة الغريبة في كل أطوار
نموها مراقبة دقيقة.
قالت
له مرة في محاولة يائسة لجعله يتخلى عن سلوكه مع البندقية:-" إن ألسنة الناس
لن تتركك وشأنك. إذا ظلت علاقتك ببندقيتك على هذه الحالة، سيتهمونك بالخبل."
عصفت
به ريح من الغضب حتى كادت تفجره. وحتى يخفف من وقع الغضب في نفسه سرد على زوجته
تاريخ بندقيته المكلل بالفخر، وقال لها أن الورد نبت على فوهتها.
في عناد مع زوجته لم يعد يُخفي عنها أي شيء.
أصبح يعانق البندقية أمامها ويضمها إلى صدره ويبدي لها الكثير من الحب والعناية.
ورغم أنه كان يريد بفعله هذا أن يتحدى زوجته، إلاً أنه لم يكن يعلم أنه يشعل في
قلبها نيران الغيرة.. أصبحت الزوجة تتصرف بعصبية وبدون أن تحكم عقلها... قالت
لصديقاتها:- أصبحت أغار من بندقيته. إنه يحبها أكثر مني. أصبحت تنافسني. هو أيضا
لو خيروه لاختارها عني."
لم
يعلم هو بما يحدث لزوجته، ولم ير أية علامة من علامات ودخان نار الغيرة المشتعلة
في صدرها. مع مرور الأيام أصبح يحب البندقية أكثر من ذي قبل. أصبح يضعها بجانبه
حين ينام ويغطيها بحنان، ولم تعد تفارقه أبدا.
قالت
زوجته لصديقاتها اللاتي أصبحن يسألنها عن أخر أطوار العلاقة الغريبة بين الزوج
والبندقية:-" فكرت مرة أن أقضي على هذه البندقية.. سرقتها في غفلة منه وتسللت
إلى الخارج وفكرت أن أكسرها. وضعتها على الأرض وحملت صخرة كبيرة وحاولت أن أحطمها،
لكنني تذكرت تاريخ صاحبها وتاريخها الذي صنعته طلقاتها.. ارتعبت وكفرت عن ذنبي،
لكن ذلك لم يطفئ بارود الغيرة المنفجر في صدري من حين لآخر حين أراه
يداعبها."
مع مرور الوقت لم تعد الزوجة تهتم بعلاقة زوجها
ببندقيته مثلما فعل سكان المخيم. تآلفت معها وانطفأت نار الغيرة في صدرها. بقى الزوج
وحده يؤمن ببندقيته وبطلقاتها التي "لا تسقط على الأرض" مثلما يحلو له
أن يقول. فكَّر ذات يوم أن يعيد الاعتبار لصوت طلقاتها على الأقل. كان يدرك أنه
يستطيع فعل ذلك، خاصة أن السكان ينامون كثيرا وقت الظهيرة، وابسط صوت من بندقية
يستطيع أن يوقظهم. ترك الناس حتى ناموا ذات ظهيرة ساخنة، فوقف في وسط المخيم وأطلق
طلقة نحو السماء. اتبعها بطلقات أخرى. استيقظ السكان فعلا وتحلقوا حوله بصمت
ينظرون إلى بعضهم البعض باستغراب. قال لهم: هل ستتحدثون بعد اليوم عن بندقيتي..
ضحك وسار نحو خيمته وهو يلوح ببندقيته عاليا.
يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء