ذات العلم الكبير( قصة قصيرة)

Resultado de imagen de mujer bandera sahara
 هذا هو حال مخيمنا للاجئ: لا تتوقف فيه الحياة عن النبض؛ صار أشهرمخيم مبني من القماش والطوب في التاريخ. سكانه أيضا أصبحوا اشهر منتظرين للسلام الخائب، أو اشهر لاجئين يسكنون تحت الخيام. هم أشهر لاجئين يسكنون تحت الريح تحت الفيضان، تحت الحر، البرد، لكنهم، أيضا، أشهر من ينهض كلما حلت كارثة.. فيه أيضا تختلط الكثير فيه الأخبار التي من النادر إن تختلط في مكان: أخبار السلام، الحرب، والهجرة والتجارة. أكثر من ذلك تمتزج فيه الكثير من الروائح: رائحة الشاي، البخور، دخان الجمر والحطب، القرنفل والحناء. وكما يتسع صدر مخيمنا لكل هذا وذاك، يتسع، أيضا، للكثير من الأساطير الواقعية التي اختلطت مع نسج التاريخ.    
 فمثلا، في مخيمنا بدأت امرأة، منذ زمن، تنسج أسطورتها الخاصة بنول من التاريخ. الذين يعيشون معها، مثل زوجها علي المري، أو الذين يجارونها مثل الشيخ عمار الذي كان يدق الجرس،  يقولون " أنها واحدة من أوائل الذين بُني هذا المخيم " على رؤوسهم"... جاءت هاربة بعد أن فقدت كل شيء بسبب القصف الهمجي."  لكن هذا ليس هو سبب شهرتها.. ليس سبب شهرتها، أيضا، كما يضيف الذين يعرفونها، مثل المقاتلين الترية وموسطاش:" أنها فقدت أحد أبنائها في حرب التحرير، واحترقت خيمتها "فوق رأسها" تحت القصف". إن سبب شهرتها، حسب القيل والقال، ارتبطت بالأعلام. كل سكان مخيمنا يتفقون " أنها في الماضي قامت بخفض علم الاستعمار حين حاول جندي أسباني رفعه فوق منزلها بعد مظاهرة الزملة  في مدينة العيون. في أول ليلة لدخول الغزاة حاولوا رفع علمهم فوق منزلها، لكنها أسقطته كذالك وأحرقته. في زمن اللجوء اشتهرت بعلمها الكبير الذي تأتي به دائما حين نريد تخليد ذكرى ما وطنية من ذكرياتنا الكثيرة التي صرنا ننسى بعضها ولا نخلده.          

ففي يوم تخليد إحدى الذكريات جاءت المرأة هي الأولى. أخذت مكانها على حافة الساحة التي ستمر منها الاستعراضات. حين وقفت ذلك اليوم بجانب ساحة الاحتفال، قال الكثير من سكان مخيمنا: " أنها تقف في نفس المكان الذي تقف فيه دائما منذ عشرات السنوات".. كانت في طريقها إلى الخروج من عمر الكهولة والدخول في السنوات الأولى من الشيخوخة. الذي يميزها هو ثباتها في نفس المكان الحار، البارد، المترب والمغبر.. تقف دائما ي نفس المكان، ترفع علما كبيرا جدا دائما، وتمسك عموده بيديها الاثنتين للمحافظة على بقائه مرفوعا. وفي انتظار بداية أي الاحتفال تبقى في مكانها حاملة عملها الكبير دون أدنى تململ أو تأرجح. كان الناس حولها يتمشون، يقتلون الوقت بالدوران حول الساحة، بالأحاديث. الناس في مخيمنا يستغلون الاحتفالات كي يلتقون، فهم عادة لا يلتقون إلا في هذه المناسبات بسبب تباعد المخيمات والنواحي وقلة وسائل النقل العمومي. طيلة الوقت لم تتحرك المرأة، وكان علمها هو أكبر علم يظهر في الساحة. كان أكبر حتى من الأعلام التي رفعها المنظمون على الأعمدة، وكانت حركته التي سببتها الريح تثير صوتا مصفقا مفرقعا مسموعا. كانت على ما يبدو، حسب تعليقات البعض "  تتدفأ بالعلم "، فهي تمسك عموده بيد وتمسك جزأ منه بيدها الأخرى حتى تتقي الريح. كان أحد شيوخ تحديد الهوية، الذي يبدو من محياه أنه هو الأخر يغادر الكهولة ليدخل خريف العمر، يقول لجماعته المحيطة به: " كانت هذه المرأة دائما هناك. منذ خلدنا أول ذكرى في أرض اللجوء وهي تأتي الأولى إلى هذا المكان بالذات تحمل علما كبيرا دائما. إنها عريفة ومناضلة بلا ثمن."

صعدت الشمس الحارة إلى كبد السماء، ويظهر أن لعجاج خف بعض الشيء. كانت المرأة لا زالت في مكانها تنتظر بداية الحفل الذي تأخرت انطلاقته كثيرا. ومن يمعن النظر في وضعيتها يستنتج أنها لم تعد تتدفأ بعلمها، لكنها صارت تتظلل به حتى – كما يقول الناس عندنا- "لا تثقب الشمس رأسها". إنها تمسك عموده بيد وتضع رأسها تحت قماشه الملون. الذين يرونها أول مرة اقتربوا منها أكثر حتى ينظروا إلى العلم المميز عن كثب. كانت أكثريتهم أطفالا في عمر البراعم. إنهم يلمسون العلم ويمسكونه معها، بل أن بعضهم صار يستظل به مثلها وهو يضحك. ويقلو لها عبدو، الرسام: سأرسم علمكِ في كراس الرسم. وتحكي عليهم المرأة قصة علمها حين يسألها أحد الأطفال عن من خاطه لها فتقول: " خاطه لي المقاتلون".  كان العلم كبيرا حقا، ذا ظل وارف، ورغم الشمس الحارة والزمن لم تفقد ألوانه بريقها وألقها. مرَّ استعراض الجيش؛ بدأت المرأة تلوح بعلمها وترفعه عاليا في السماء تحت وقعِِ زغاريدها الحادة. حين انتهى استعراض الجيش، لم تنتظر المرأة نهاية الحفل، ولم تكمل ما تبقى من الاستعراضات المدنية والثقافية. حملت علمها عاليا وسارت اتجاه خيمتها دون أن تقول شيئا. كانت تبتعد كمن يقترب، وتختفي في الغبار والسراب كمن يظهر، حتى لم يُعد يُرى سوى علمها، أما الناس فبقوا في مكانهم ينظرون بابتهاج إلى ما تبقى من الحفل دون أن يشعر احد أنها فعلا غادرت مكانها التاريخي بعد استعراض الجيش مباشرة.          

يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء