ب) نماذج لنجاح العمل الحقوقي الصحراوي
سيدي محمد ددش يخرج إلى الشمس...
أول نتائج النضال الحقوقي الصحراوي كانت الخروج
المظفر لسيدي محمد ددش، عميد المطالبين بتقرير المصير، يوم 7نوفمبر 2001م من سجن
لقنيطرة الذي قضى فيه حوالي 25سنة. إن طول تواجده تحت الأرض يعذب من أجل مقايضة
قضيته بإطلاق سراحه جعلته وطنيا ورمزا في عيون الصحراويين كلهم وفي عيون العالم. لقد
تحول إلى رجل خطير في عيون الاحتلال لأن كل الذين ألقي عليهم القبض في الانتفاضة
يسألهم البوليس، أثناء الاستنطاق، عن علاقتهم بسيدي محمد ددش، وما هي تعليماته
لهم.؟
كان شابا حين قبض عليه
جريحا بعد معركة في امكالا يوم 2 فبراير سنة 76م.
تمت معاقبته بقضاء سنتين لا يرى فيهما الشمس ولا الضوء.. في يوم 10 غشت 79م
حاول الالتحاق بشعبه في المخيمات، لكنه وقع في الأسر مرة أخرى وجريحا. انقلبت
السيارة التي كان يقود فاستشهد رفيقه وبقى هو حيا جريحا. كانوا ثلاثة عشر، نجا
منهم إحدى عشر، التحقوا برفاقهم في جبهات القتال الساخنة آنذاك في نفس اليوم. حكم عليه بالإعدام سنة 80م من طرف محكمة
عسكرية، بعد ذلك حُكم عليه بالمؤبد سنة 94م. بدأ يحاول الاتصال بالعالم الخارجي
وإرسال رسائل مشفرة إلى المنظمات الحقوقية لشرح وضعه الحقوقي. في سنة 97م نجح مسعاه
فتم اعتباره، من طرف منظمة العفو الدولية، سجين رأي سياسي صحراوي. تناقلت وسائل
الإعلام أسمه باعتباره أقدم سجين سياسي في العالم، ونتيجة لذلك الضغط بدأ يستقبل
الزيارات. يقول سيدي محمد ددش:" بدأت استقبل الزيارات لكن الذي كان يحزنني
هو أن أمي لم تكن بين الزوار. أخر مرة سمعت صوتها كان سنة 75م وهي الآن هرمة. إنني
لم أبك في حياتي، لكن حين سمعت صوت أمي في البداية، أحسست إنني لم أعد أطيق حبس
الدموع، صارعت كثيرا لكنني أجهشت بالبكاء في النهاية."
وحين
يهم سيدي محمد ددش باستحضار الذكريات المخيفة عن سؤ المعاملة في السجون المغربية
يسعى إلى كبح انفعالاته:" لقد تم
وضعي خلال مدة سجني في زنزانة معزولة، وتعرضت إلى أسوأ صور التعذيب النفسي
والجسدي. كنت الجأ إلى إضرابات مفتوحة عن الطعام من أجل الحصول على حبة اسبيرين في
بعض الأحيان أو من اجل أن ينظفوا الزنزانة."
في
السجن كانوا يجعلون حاله تسؤ إلى أقصى الحدود، ثم يبعثون له من يطلب منه أن يتخلى
عن قضيته مقابل إطلاق سراحه، لكنه كان يرفض. وفي الأخير يقول سيدي محمد ددش:"
قدم لي المجلس الاستشاري المغربي لحقوق الإنسان اقتراحا يطلب مني فيه أن أكتب
التماسا للعفو إلى الملك، ولكنني رفضت رفضا قاطعا."
كان
السجن قاسيا على سيدي محمد ددش، لكنه هو تسلح بقضية وطنية شريفة حتى تغلب على كل
أنواع التعذيب النفسي والجسدي. قرر أن يبدأ معركة عصيان مع سلطات الاحتلال وهو في
ظلمة زنزانته الضيقة القبيحة التي لا تتعدى ثلاثة أمتار مربعة، والتي لا يوجد بها
من النوافذ سوى ثقبان ليبقى يتنفس منهما. كان أقرب باب له هو باب غرفة كلاب
الحراسة الهائجة دائما والتي يعطونها أقراصا منشطة حتى تقضي الليل كله تنبح كي لا
ينام أحد. فحتى يضغط على سلطات الاحتلال كي تُحسن من وضعيته كان من حين لآخر يدخل
في إضرابات انذارية عن الشراب والطعام، لكن أشهرها على الإطلاق كان الإضراب المفتوح
عن الطعام الذي بدأه يوم 23 غشت 2001م.
الخبر هز الساحة الوطنية الصحراوية في المدن المحتلة والمناطق المحررة
وانتقل إلى العالم خاصة المنظمات الدولية الحقوقية. في اليوم الموالي لإعلان
الإضراب تجمع الصحراويون في مدينة العيون بأعداد كبيرة معلنين تضامنهم معه. وصلت
إلى التجمع عديد الرسائل من المنظمات الدولية للتعبير عن التضامن الإنساني
والتعاطف مع السجين الذي كان يحطم الرقم القياسي في طول المدة التي قضاها في
السجن. في التجمع أُعلن عن بداية الحملة الدولية من أجل إطلاق سراح سجين الرأي
السياسي سيدي محمد ددش. ورغم الكلمات المؤثرة التي ألقيت في التجمع من طرف معتقلين
سابقين وسجناء رأي، إلا أن الجميع بكى حين تم ربط صوت سيدي محمد ددش من زنزانته
بالتلفون الموصل مع مكبر صوت. كانت الرسالة الصوتية مؤثرة وعميقة. قال سيدي محمد
ددش." صباح الخير أصدقائي، أقول لكم إنني بخير,. ففي مقر قوات الدرك
الملكي بالعيون سنة 79م، وقبل مثولي غير العادل أمام المحكمة العسكرية بالرباط تم
تعذيبي بوحشية أثناء الاستجواب. الآن أمضيت أكثر من 22 سنة في السجن المركزي
بالقنيطرة، وهذا رغم الحملات المؤيدة لإطلاق سراحي والمنظمة من طرف المدافعين عن حقوق
الإنسان، والتي من بينها المكتب الأوروبي من أجل احترام حقوق الإنسان في الصحراء
الغربية، وكذا من طرف منظمة العفو الدولية. إن موقف المملكة المغربية التي تدعي
أنها تحترم حقوق الإنسان لا زال لم يتغير. لقد اختارت أن لا تطلق سراحي، لهذا قررت
الشروع في إضراب عن الطعام لمدة 24 ساعة كل أسبوع بداية من 23 غشت 2001م إلى أخر
أسبوع من شهر سبتمبر 2001م. وحين تمر هذه
الفترة فإنني أخطط للشروع في أعمال أخرى نضالية حتى أحتم إطلاق سراحي بدون قيود أو
شروط. في النهاية أحي كل الصحراويين وكل المدافعين عن حقوق الإنسان في العالم."
سجن لقنيطرة 24 غشت 2001م السادسة ونصف مساء
وحين انتهت المكالمة هتفت
الجموع بحياة الدولة الصحراوية ورفعت الأعلام وبدأت انتفاضة جديدة. انه بطل
حقيقي. حين خرج مثل الأبطال كانت أول
ملاحظاته هي:" كثرة المستوطنين حتى أن الصحراويين صاروا قلة في وطنهم."
من جهة أخرى هو يعتبر:" أن كل المغاربة الذين تشاهدهم في الشارع هم لا يعملون
هنا إلا عملا واحدا هو محاولة إرهاب وتصفية الشعب الصحراوي، وحتى الذين لا يلبسون
ملابس رسمية هم رجال أمن أصلا."
كان من بين أمنياته أن
يرى أمه، ويلتقي شعبه في اللجوء خاصة رفاق السلاح. لم ينتظر كثيرا، ففي سنة 2002م
جاءته بشرى حصوله على جائزة " رافتو" النرويجية، وعليه أن يستلمها
شخصيا. رفضت المملكة إعطائه جواز سفر حتى يستلم جائزته، لكن الضغط الدولي مكنه، في
الأخير، من تحقيق أمنيته بلقاء والدته في النرويج. بقيت الأمنية الثانية، وهي أن
يلتقي شعبه في مخيمات اللاجئين خاصة رفاق السلاح مثلما يحلو له أن يقول. حين نظمت
الأمم المتحدة برنامج الزيارات بين العائلات الصحراوية المقسمة على جانبي الجدار
سجل سيدي محمد ددش اسمه، لكن السلطات المغربية استهزأت بطلبه. استهزأ هو أيضا برفض
السلطات المغربية، وبقى مصرا على طلبه. هو يعرف أن الضغط على المغرب سيجعله يذهب،
طال الوقت أم قصر، لرؤية شعبه في يوم ما مثل كل الصحراويين. بدأ الصحراويون في
المدن المحتلة يؤازرونه ويتخلون له جماعيا عن حقهم في زيارة أهلهم مقابل أن يذهب
هو. في الأخير انتزع حق الزيارة، وذهب ليرى شعبه الذي استقبله استقبال الأبطال. كل
الشعب الصحراوي ذهب ليرى هذه الأسطورة التي هزمت سجون المملكة المغربية الرهيبة.
أثناء الزيارة التقى مع رفاق السلاح، ورغم المدة التي قضاها في السجن وتأثير ذلك
على التذكر إلا ان ذاكرته، حسب شهادات الذين زاروه، لا زالت قوية، وقالوا انه
عرفهم وأنه ذكرهم بوقائع نسوها هم.
العمل الحقوقي يكسر
الحصار...
فإلى
غاية سبتمبر 2001م كان صدى انتفاضة 99 م لا زال يتردد في شوارع المدن الصحراوية
المحتلة، وفي نفوس الصحراويين خاصة الذين عاشوا أحداثها البطولية. فتحت شعار
" حتى لا ننسى، ومن أجل حفظ ذاكرتنا حية"، أحيا الحقوقيون الصحراويون
إلى جانب مواطنيهم الذكرى الثانية لتلك الانتفاضة ابتداء من 22 سبتمبر 2001م على
مدى أسبوع. خلال التظاهرة استعادت مدينة العيون المحاصرة ذكرى انتفاضتها الباسلة
التي قُمعت ببشاعة. ذهب المشاركون إلى زيارة الأماكن التي سال فيها الدم وسقط
الجرحى، ووضعوا باقات من الورد في تلك الأماكن وبدؤوا أسبوعهم المخلد لتلك
الانتفاضة. أقاموا المعارض الفوتوغرافية، وعرضوا أشرطة الفيديو الخاصة بالحدث،
وعلقوا على الجدران لا فتات كبيرة كتبوا عليها" لا بد من وضع نهاية لانتهاكات
حقوق الإنسان في الصحراء الغربية." ،" لا راحة ولا نوم ما دام إخواننا
في السجن." وتخللت التظاهرة تدخلات للكثير من الذين اختطفوا إبان تلك
الانتفاضة التي لا تنسى، كما وُجهت عديد الرسائل والتوصيات إلى المنظمات الدولية
ورمي الكثير من هذه الرسائل أمام مقر الأمم المتحدة في المدينة.
على
الأرض تواصلت الانتفاضة أكثر وتمكنت في منتصف نوفمبر 2001م من منع ملك المغرب من
زيارة مدينة السمارة التي سيطر عليها المتظاهرون المنتفضون بالكامل لمدة يوم. لم
تستطيع قوات الأمن الاشتباك معهم فاستنجدت بالجيش المغربي المرابط قرب المدينة. في
الليل قام الجيش مدعوما بالدبابات بتوغل، لا يبتعد كثيرا عن توغلات الجيش
الإسرائيلي في المدن الفلسطينية، فأعاد
احتلال المدينة بالقوة. دخل الجيش المدعوم بقوات الأمن المدينة ليزرع الرعب في
أوصالها ويسكت أنفاسها فكانت المجزرة. بقيت آثار الدم في الشارع وعلى الجدران،
وسِيق الشباب المنتفض بالعشرات إلى السجن. كل العالم تحدث عن فظاعة ما جرى، فحتى
مجلس الأمن في جلسته ليوم 30 نوفمبر 2001م عبر عن مخاوفه بشأن ما حدث في السمارة.
نفس الشيء حدث حتى في الولايات المتحدة الأمريكية حيث بعث 10 أعضاء من الكونغرس
رسالة إلى الرئيس بوش يوم 28 نوفمبر 2001م
يخبرونه فيها بحال حقوق الإنسان في الصحراء الغربية، والاستفزازات المغربية التي
قام بها الملك المغربي حين زار الإقليم غير خاضع للسيادة المغربية.
لم
يعد المغرب قادرا على السيطرة على المدن الصحراوية الثائرة رغم انه جلب إليها 7000
رجل أمن جديد منذ 2001م. إن التوتر الحاصل
على الأرض جعل العالم، كله، يريد الذهاب إليها للوقوف على حقيقة ما يجري في هذه
المنطقة المحتلة المحولة إلى ثكنة عسكرية محروسة، ولا تتمتع بما يتمتع به باقي
الأقاليم في العالم. ففي شهر ديسمبر 2001م طلب وفد من الاتحاد الأوروبي زيارة
مدينة العيون للقاء الفعاليات الحقوقية الصحراوية، والوقوف ميدانيا على حقيقة ما
يجري في هذه المدن التي تعيش ضغطا أمنيا رهيبا. حين علم الصحراويون بالزيارة بدؤوا
يُحضرون لاستقبال هذا الوفد الهام بالتظاهر السلمي في شوارع المدن المحتلة، لكن
المشكلة أن المملكة لا تريد هذه المظاهر، وتريد الوفد أن يأتي حين يكون الوضع تحت
السيطرة بالكامل. كانت الزيارة تؤجل كل مرة حتى دام التأجيل شهرين كاملين. نفذ صبر الأوروبيين وضغطوا على المملكة حتى سمحت لهم أخيرا بزيارة العيون في
جو رهيب من حظر التجول. في المدينة لم ير الزوار أي صحراوي في الشوارع، وكانت
الزوايا كلها محروسة برجال الأمن. ففي يوم 12 فبراير 2002م كان الوفد في العيون،
وهناك التقى الفعاليات الحقوقية الصحراوية، وشكل اللقاء انتصارا باهرا للمقاومة
السلمية خاصة العمل الحقوقي المنظم. والذي فأجا الوفد خلال لقائه بمختلف التفرعات
الحقوقية الصحراوية، هو أن هؤلاء الصحراويون قوة حاضرة في الإقليم، لكنها مغيبة عن
الساحة الدولية بفعل الضغط الممارس عليها والإجراءات المتخذة في حقها. ففي الجلسة
الأولى التقى الوفد مع فرع الصحراء الغربية التابع لمنتدى الحقيقة والإنصاف، وقدمت
له رزمة من التقارير الموثقة الخاصة بوضع حقوق الإنسان المتدهورة في الإقليم،
والخروق الفظيعة التي تمت تحت الاحتلال. وبعد نقاش معمق توصل الوفد إلى ان منشأ
هذا الوضع المزري لحقوق الإنسان ناتج عن خرق حق تقرير مصير شعب الصحراء الغربية.
وجمع اللقاء الثاني الوفد مع لجنة التنسيق التي تضم كوكبة من المعتقلين السابقين
يترأسهم سيدي محمد ددش ومينتو حيدار وإبراهيم الصبار، ومجموعة أخرى من أبطال
الانتفاضة. وبعد نقاش طويل مرفق بالدلائل خلص الوفد أيضا إلى أن خرق تقرير المصير
في هذا الإقليم قد أدى إلى هتك كل حقوق السكان الأصليين في مجالات كثيرة اجتماعية
وسياسية واقتصادية. وكانت للوفد لقاءات مع لجنة عائلات المفقودين الصحراويين،
وقدمت له ملفات بالأسماء والصور لمئات الحالات المفقودة من ضحايا الاختفاء القسري
الذين لا يعرف لهم أحد مصيرا.
لقد
حقق العمل الحقوقي الصحراوي، رغم الخنق الأمني المغربي، إنجازات تاريخية في المدن
المحتلة بعد أن تمكن من إزاحة الستار المظلم عن الإقليم الذي كان حديقة سرية
مغربية تنتهك فيها بفظاعة حقوق الإنسان في الظلام بعيدا عن الأضواء والأعين. لقد
تمكن الحقوقيون، باستعمال وسائلهم الخاصة، من نقل الصورة الحية للإقليم المنكوب
بفعل إرهاب الدولة المغربية إلى العالم الذي يظن الكثير منه انه لم تعد في كوكبنا
دولة تمارس هذا الأسلوب المهين للكرامة البشرية.
يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء