تحرك سكان المخيم أثر سماع الصرخة يمسحون عرقهم
ويحكُّون أجفانهم. اتجهوا إلى مصدر الصوت كل بطريقته: البعض يجري ويتعثر، البعض
يهرول، ومن لا يستطيع فعل هذا ولا ذاك كان يمشي، لكن كمن ينوي الجري. . والحقيقة أن
الصرخة ودق الجرس، خاصة في الأوقات غير العادية، يوحيان بالخوف وبالجديد. كلما صرخ
احد أو سُمع دق الجرس، خاصة أثناء القيلولة أو في قلب الليل، يسرع السكان إلى
المكان الذي حدثت فيه الصرخة يتساءلون عن السبب، ولا ترتاح قلوبهم في أقفاص صدورهم
إلا بعد أن يعرفوا لماذا حدث هذا..
صرخ الرجل مرة ثانية وبقوة أكبر هذه المرة. لكن
ما كاد ينهي صرخته الثانية حتى كان أول السكان قد وصل إليه. كانوا يتعثرون في
الرمال، يلهثون، عرقهم يقطر من وجوههم. كان الأطفال، الذين كانوا مستيقظين تلك
الساعة، أول من وصل إليه وتحلق حوله. جاء
بعدهم الرجال، وأخيرا وصلت النساء. حين اكتملوا اكتشفوا جميعا أن لا أحد منهم يلبس
حذاء. كانوا- كلهم- حفاة ويقفون على رمل مشتعل تحت أهداب الظهيرة الحارقة. وقفوا
دون حراك، لا يسمع لهم إلا فحيح أنفاسهم الحارقة التي تخرج من أنوفهم، أو نبض
قلوبهم المرتاعة التي تدق في صدورهم كخيول تركض في صحراء جرداء.
كان الرجل الذي صرخ واقفا ينظر إلى الشمس بعينين
متقدتين، ورجلاه الحافيتان غائصتان في الرمل المشتعل دون حراك. بدأ من خلال هدوئه
انه لا يشعر بحرارة الشمس والرمل. عرفه الجميع. رجل ليس غريبا على المخيم والكل يعرفه هنا. احد ضحايا الحرب مثلما يسميه
السكان هنا. أصابت رصاصة ذات يوم حارق كتفه في المعركة، وبقى حياً مكلفا بملف
الشهداء في المخيم. يتحدث عنه السكان بإعجاب، لأن بعضهم حين زاره في المستشفى بعد
جرحه وجده يبكي، والدموع تجرح خديه. كانوا يظنون انه يبكي بدموع فرح لأنه نجا من
الموت، لكن الحقيقة التي تأكدوا منها بعد ذلك اثر لقياهم بالمقاتلين الذين قاتلوا
معه، انه كان يبكي بدموع حزينة، لأنهم كانوا يسمعونه يدعوا ربه في صلاته أن يمنحه
الشهادة من اجل السكان ووطنهم حتى لا يبقى عالة عليهم وعلى نفسه حسب ما يقول.. حين
يلتقي بالناس ويسألونه عن الحادثة يصفها لهم بقوله:"- علمني الذين استشهدوا أن
لا احفر خندقا ولا أقاتل منبطحا. في اليوم الذي جرحت فيه كنت واقفا ورأسي مكشوفا،
وكنت احلم أن تصيبني رصاصة في القلب حتى اصعد إلى الشمس في اثر الرفاق."
وتجرحه الدموع حين يحكي الواقعة فيسكت، لكن
يبكي في داخله.
اليوم حين صرخ واجتمع الناس حوله قال
لهم:-" لم تلسعني عقرب خرجت من الرمال، ولم يحدث حريق في المخيم، لكنني اليوم
فقط، حين كنتم نياما رأيت عيونهم فوق الشمس. انظروا إلى الشمس وسترون عيونهم."
بفعل لاإرادي رفع الناس عيونهم إلى السماء.
كانت الساعة تشير إلى الثانية ظهراً؛ الساعة التي يقول السكان أن الشمس تتحول فيها
إلى قرص أحمر من نار من ينظر إليه تلتهب أهدابه، وفيها أيضا يتحول الرمل إلى جمر
من يطأه حافيا تحترق أرجله.
بسبب حرارة الشمس الحارقة أخفض الكثير من الناس
أعينهم إلى الأرض. قلة فقط من سكان مخيمنا بقيت تنظر إلى أعلى. الأطفال أيضا، بفعل
الفضول الغريزي، بقوا ينظرون إلى أين ينظر مصدقين ما قال لهم عن وجود عيون في
السماء تنظر إليهم. بدأ الحاضرون يتململون بين حرارة الشمس ولهب جمر الرمل المحترق
تحت أقدامهم. نظر البعض إلى ساعته، وحين تأكد له أنها الثانية بعد الظهر
همس:-" من سيبقى هنا دقيقة سيحترق. فوقكم النار وتحتكم الجمر."
احترق المكان أكثر، وتحولت الأعين من النظر إلى
السماء إلى النظر إلى وجه الرجل. كان لا يزال مُركزا عينيه على الشمس المحرقة دون أن
يحس بلهبها أو بحرارة الرمل تحت أرجله. قال صديقه سعيد الجريح بصوت خافت:-"
لو لم يكن رأى شيئا فعلا فوق الشمس كان اخفض عينيه عنها مثلنا."
لم يحتمل الكثير من الناس حرارة الشمس والرمل
فبدؤوا يتسللون، واحدا اثر الآخر، إلى ظلال الخيام وبيوت الطوب.
قال هو لمن بقوا واقفين معه:-" من لم ينظر
طويلا إلى الشمس لن يرى عيونهم تتوهج."
قال البعض أنهم كانوا يرونه يوميا يقف في هذا
المكان ينظر إلى الشمس، لكنه لم يصرخ من قبل مثل اليوم. الذين أرادوا التعليق على
الحادث، خاصة شلته، اجتمعوا في مكان واحد حتى يخرجون بتفسير موحد معقول لما وقع
حتى لا يكثر غبار الأقاويل حول الرجل، لأنه - حسب تعبيرهم كلهم- كسب ودهم وتقديرهم
بعد سيلان دمه على ارض الوطن يوم جرح في المعركة.
قال الترية المقاتل:- إن الفعل الذي قام عبد
الله البطل اليوم لا يمكن تفسيره.
- قال موسطاش:- يجب أن نعترف جميعا أن كل منا
فسر هذا الحادث في سره، وقال أن الرجل أصيب بشيء غير عادي. إن اعترافنا بذلك قد
يغسل عنا الخطأ.
حرك الرجال رؤوسهم صامتين بأسف علامة الاعتراف.
- تحمس احد رفاقه يدافع عنه قائلا:-" إن
رجلا أرهب الأعداء والموت هو رجل يخافه الجن."
- قال ثالث:-" المهم افشوا في المخيم
تفسيرا منطقيا لما حدث قبل أن يتحدث الناس صباحا عن الحادثة كلُّ بمنطقه."
توصل المجتمعون إلى نتيجة وهي أن لا ينسوا
الحادث اليوم، ولا ينسوا دم الرجل الذي سال يوم المعركة. حين أرادوا الانصراف لمعت
فكرة في رأس علي المري فقفز صارخا:-" انتظروا. لماذا لا نعود إليه غدا مادام
يقف هناك يوميا، وننظر إلى حيث ينظر فربما يرى أشياء لم نرها نحن بسبب حرقة الشمس
والرمل."
اتفقوا أن يعودوا إلى المكان للنظر إلى الشمس
مع الرجل، فهو إثباتا غير مجنون حسب ما توصلوا إليه.
عادوا جميعا إلى المكان. كان الرجل واقفا فوق
الكثيب الرملي معلقا عينيه بالشمس، وحوله أطفال المخيم ينظرون إلى السماء بدهشة. اندهش
السكان وهم يرون مشهد الأطفال متحلقين حول الرجل، فتسللوا واحدا اثر الأخر وانضموا
إليهم، وبقى الجميع ينظر إلى الشمس الحارقة في السماء علهم يرون ما يرى الرجل. قال
احد السكان هامسا:- ليست المشكلة أن نرى شيئا مما يقول الرجل أو لا نراه، لكن
المشكلة كم سنقاوم النظر إلى الشمس..
يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء