حارس الشمس( قصة قصيرة)


Resultado de imagen de ‫الشمس المقاتلون الصحراويون‬‎إن الذي حير أولئك الرجال الذين يعرفونه أن المقاتل المري( المنظاربالحسانية)، رفض أن يصدق أخبار السلام الذي تحدثت عنه الإذاعات. المري هو الاسم الحركي(الكنية) الذي حمله علي منذ بداية الحرب. كان كل مقاتل جديد ينخرط في الثورة يحمل اسما حركياً أو كنية خوفا عليه من عيون رجال بوليس الاستعمار الأسباني. هو حمل ذلك الاسم لإنه في أول يوم انخرط فيه في الحركة، جاء يحمل معه منظار رؤية ليساعد به المقاتلين في مراقبة تحركات العدو. حين لم يعرف الرجل المكلف بإعطاء أسماء جدد للمنخرطين أي اسم يناسب علي، أطلق عليه اسم المري، نسبة إلى المنظار الذي جاء به. وليس هذا فقط فقد كلفه بالاستطلاع ومراقبة مواقع وتحركات العدو.

  في اليوم الذي وصلت فيه أخبار السلام، بعد توقف الحرب، كان علي المري مرابطا في الخندق الذي يسمونه عش الصقر.  كان يراقب كعادته منذ عشرين عاما مواقع العدو. حاولوا إقناعه إن السلام حقيقة، وأن الأمم المتحدة قد وصلت فِرقها فعلا إلى رمال تلك الصحراء الحارقة. حين رفض أن يصدق وينزل من خندقه، جاءه أمر عسكري من قائد كتيبته يطلب منه النزول من المرتفع الذي يوجد فوقه خندق المراقبة. كان الأمر يقضي بذهابه في مهمة إلى المكان الذي انتشرت فيه قوات حفظ السلام الأممية ليراها بعينيه عله يصدق السلام. حين وصل إلى هناك رأى فعلا العلم الأزرق يرفرف فوق كثبان الرمل، ورأى مجموعة ملونة من الجنود االصفر، الحمر، السود والبيض تنظر ببلاهة إلى المكان الذي يتيه فيه البصر. لم يفعل أكثر من أن ضحك وعاد أدراجه إلى مكان المراقبة. رفض أن يصدق أي شيء مما قيل له عن السلام ونهاية الحرب. وحتى حين سمع بعض أصدقائه يحكون أمانيهم في ظل السلام، كان يضحك في أعماقه. كان يسمعهم يتحدثون عن مشاريع في التجارة، الترحال والهجرة إلى أية أرض أخرى. رآهم يحلقون شواربهم ويلبسون الملابس المدنية، سمع بعضهم يقسم " أنه لن يعود إلى هذا المكان الحار إذا لم تعود الحرب." وقال مصطفى موسطاش، أخر واحد في الجماعة حكى أحلامه: أنا سأهب أعمل في أسبانيا. 
حين انتهى أولئك الرجال – لكهم- من حديثهم عن أمنياتهم، سألوه هو "ماذا هو فاعل في زمن السلام الذي حل ." قال لهم أنه باق هناك في خندق المراقبة، وأنه لن يحلق شاربه أو يغير ملابسه أو أفكاره. 

جاء أمر آخر بإخلاء نقطة المراقبة تلك. أكثر من ذلك تم أمر جميع مقاتلي تلك الكتيبة أن يعودوا إلى المركز الخلفي، ويسلموا أسلحتهم. كان ذلك أول أمر أعطته البعثة التي جاءت لتراقب السلام إلى أولئك المقاتلين. رفض هو ذلك الأمر، وقرر البقاء في المكان الذي قضى فيه سنوات عمره الخضراء. بقى هو وسيارته وسلاحه ومنظاره ومستلزماته. ورغم أن رجال البعثة الأممية احتجوا على بقائه في ذلك المكان المتقدم القريب من العدو، إلا إن المسئولين الصحراويين أقنعوهم أنه لن يقوم بخرق لوقف إطلاق النار.    
 لقد صدم قراره الكثير من الناس، ليس بسبب عدم صوابه، لكنهم ظنوا أن فعله ذلك دليل على تغير حدث على حاله. كان إلى غاية مجيء السلام هو الذي يوجه كل المعارك الكبيرة التي كانت تدور في تلك الصحراء. فحين كان المقاتلون يريدون تنفيذ معركة ما كبيرة، كانوا يستدعونه هو شخصيا من كتيبته كي يقوم بعمل الاستطلاع الذي يسبق كل معركة. كان قادرا على كشف كل أسرار العدو الدقيقة ولو في العمق. الكل يشهد له " أنه لم يستطلع أمام كتيبة إلا وعادت منتصرة." هاهو الرجل الآن محل شك بسبب عدم تصديقه للسلام. ما حدث له هو جزء مما أحدثه زمن السلام في تلك الصحراء التي قضت حوالي عشرين سنة لا يسمع فيها سوى صوت الرصاص والريح وتحركات الآليات الثقيلة.         

شاع أمره أيضا في المخيم. كان كل الذين عادوا إلى المخيم يخبرون الآخرين بقصته قائلين " أن فلانا رفض أن ينزل من خندق المراقبة.". كان البعض من الذين يعرفونه يتأسف لفعله، وكان الذين لم يعرفوا تفسيرا لفعله يهزون رؤوسهم حزانى ثم ينصرفون. البعض منهم كان يقول  " لعله بقى هناك كي يحرس الشمس. بعد الحرب لم يبق هناك ما يُحرس ما عدا الشمس"، ثم يضحك ويواصل رشف شايه.
ورغم أن بعض الأحداث المشابهة استجدت إلا أن لا أحدا نسى فعله. كان من جملة ما حدث أن أحد جرحى الحرب أدخل بندقيته إلى المخيم ورفض وضعها في المخازن. كان هناك جريح حرب أخر وقف ذات يوم في الظهيرة فوق أعلى كثيب رملي وصرخ حتى أيقظ كل السكان. أيضا مطربة المخيم عادت للرقص والغناء بدون طبول ولا أدوات موسيقي، ورقصت ذات يوم مع العجاج أمام الناس وهم في اجتماع..
       
عادت كتيبته إلى المركز الخلفي وبقى هو في خندقه. أصبح المكان هادئا تماما، ولم يعد يكسر صمته أي تحرك. حين طلعت الشمس نظر بمنظاره إلى الحزام الرملي فرآه جاثما على تلك الصحراء مثل ثعبان عملاق ميت. لازال هناك الكثير من الجنود والأسلحة الثقيلة والدبابات. لم يتغير أي شيء من مكانه، وكل ما حصل أن جنود الاحتلال لا يتحركون الآن بعد أن آمنوا القذائف التي كانت تسقط على خنادقهم. أول مرة يكتشف كم هو رهيب صمت تلك الصحراء. خلى المكان حقا من أية حركة،  وتوقفت رَحى الحرب العملاقة ولم يبق سوى غبارها الذي سيرحل عما قريب أيضا مع الريح.

لم يغِّير علي المري أي شيء أيضا من برنامج حياته قبل الحرب.. الشيء الوحيد الذي استجد أنه أصبح ينام إلى الضحى، حتى تطلع الشمس، وتصبح رؤية الحزام الرملي ممكنة بالمنظار. أيام الحرب كان وقت الفجر هو وقت المعركة، وكانت الشمس لا تطلع عليه إلا وهو في خندقه مع رفاقه مثل الصقور.    

كان حين يعود في إجازة يسأله الناس لماذا لم يدخل المخيم، أو يعود للمركز الخلفي مثل سائر المقاتلين.؟ كان يقول لهم " لم يتغير أي شيء..إلى أين سأذهب، وأنا لم أتقن في حياتي سوى المراقبة والاستطلاع والقتال."
في مرات كثيرة سمع الناس يقولون له حين يشاهدونه:" إن هذا الرجل يحرس الشمس." لم يكن يعرهم اهتماما في البداية؛ كان يمضي رافعا رأسه إلى حيث هو ذاهب. كان يجيب كل من يسأله عن لماذا بقى في الخندق، لكن في إحدى المرات سألته ابنته التي شهدت قصف مدينة أم دريكه وهي صغيرة:" هل صحيح أنك بقيت في الخندق تحرس الشمس يا أبي."
أزعجه السؤال، نظر إليها بعمق. إنها لن تفهم إذا قال لها أنه لم يصدق السلام، وانه لا يحسن أي شيء في حياته ما عدا الحرب. كانت لازالت تنظر إليه بشوق، فقال لها:" نعم، أنا هناك أحرس الشمس."          
لما تنتهي إجازته يعود في شاحنة المقاتلين إلى المركز الخلفي حتى يأخذ سلاحه ثم يغادر في سيارته إلى خندق المراقبة.
في الخندق، حين لا يسمع أي صوت ولا يبصر ما يثير حواسه في الحزام الرملي، كان من حين لآخر ينظر إلى الشمس فوق رأسه. كان يمسح بمنظاره المنطقة التي تقع أمامه ثم ينظر إلى الجهة الأخرى. في بعض الأيام كان يرى الطريق الذي كانت لا تسلكه سوى الدبابات والسيارات العسكرية، قد أصبح ممرا لشاحنات وسيارات التجار. إن هدوء المكان جعله ينتبه إلى أشياء كثيرة لم يكن عنده وقت في الماضي كي يكتشفها بدقة. فالشمس مثلا يَعتقد الآن أن حجمها أصبح أكبر ما كان عليه زمن الحرب، وان لونها أشد صفرة. أكتشف أيضا أن لون السماء أصبح أشد زرقة من ذي قبل. في عمقه يعتقد أن غبار الحرب هو الذي ترك الشمس أقل صفرة وأصغر حجما، وأن تبدد ذلك الغبار الذي كان يملأ السماء هو الذي جعل الأشياء تظهر كما هي. .

أصبح للنظر إلى الشمس فوق رأسه فتنة كبيرة. أحس فعلا بألفة معها. إنه يحس أنها قريبة منه، وفي بعض الأحيان أنها في مكان منخفض على غير العادة. ينظر إليها بمنظاره فيراها كبيرة وعملاقة. يقضي وقتا طويلا ينظر إليها، وأحيانا يعتقد أنه يبصر حركتها البطيئة التي لم يستطيع أي أحد أن يبصرها في كل العصور.   
في أحد الأيام نزلت على ذهنه فكرة وهي إن يكسر بعض الروتين المفروض عليه في الخندق. قرر أن يبدأ الاستيقاظ باكرا على غير العادة ليرى الشمس في لحظة ميلادها الأولى. حين استيقظ في اليوم الأول ليراقب  الشمس تُولد، تفطن انه يقف في نفس المكان وفي نفس الوقت الذي كان يراقب فيه المعركة. اقتنع فعلا في عمقه انه بدأ يحرس الشمس، وأن ما قاله عنه الناس فيه شيء من الصدق أو الكثير منه.


يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء

:)
:(
=(
^_^
:D
=D
=)D
|o|
@@,
;)
:-bd
:-d
:p
:ng