إذا أردنا معرفة أي شيئ
عن صورة المرأة الصحراوية وأهمية الدورالذي لعبته في مجتمعها القديم لا بد أن
نعود إلى الحقل الثقافي كمنبع أول، مهم وملهم كي نجمع منه حطام تلك الصورة التي نبحث
عنها والتي لم نجد عنها شيئا كثيرا مكتوبا. إن عملا مثل هذا( جمع صورة المرأة
الصحراوية وأهمية دورها من الحقل الثقافي) يتطلب التنقيب في كل فروع الثقافة
الشعبية وبدقة وعدم جهل أو تجاوز أي مكون منها. فيقينا لا بد من البحث في الأدب
الشفهي الصحراوي المحكي، في العادات والأمثال والأقوال الشعبية وفي المعتقدات والطقوس
التي ظل الصحراويون يمارسونها ويعتقدون فيها إلى وقت قريب أو حتى إلى اليوم. إن أول
ما يخرج به الباحث من أول قراءة، حتى لو كانت سطحية، لأي موروث أو مكون أدبي شفهي
أو من تحليل لأي طقس أو عادة صحراوية هي حضور المرأة الكثيف، اللافت و البيِّن والذي
لا يحتاج لأدنى مجهود حتى يتم فك رموزه أو طلاسمه. ففي كل ما هو شفهي صحراوي أو في كل ما هو ثقافي شعبي
مثلما أعتدنا على تسميته( أدب، شعر، أمثال) تواجهنا ظاهرة وهي أن المرأة الصحراوية
أكثر حضورا من الرجل وصورتها أكثر ألقا من صورته. إن الذي نعرفه جميعا أنه حينما
يهتم شعراء وحكماء وأدباء أمة بشخص ويخلدونه في إنتاجهم فهذا لا يأتي من فراغ إنما
أن ذلك الشخص المخلد قد استحق أن يتم الحديث عنه وتخليده لقيامه بدور ما في الحياة
الجماعية لمجموعة بشرية ما. إن الذي سيفاجئ أي باحث أو مجرد قارئ بسيط للأدب والثقافة الصحراوية هو أن المرأة نالت الحظ
الأوفر من الذكر ومن الحضور ومن التميز. وبمفردات العصر الحالي نقول بتجرد كامل من
أي مبالغة واعية أن المرأة الصحراوية قديما قد أُسْنِد لها دور البطولة في الثقافة
والموروث الأدبي الشعبي الصحراوي. ففي كل ما وصل لنا بالتواتر من منتوج أدبي ثري،
كانت المرأة هي البطلة واللاعبة رقم واحد، وهي العمود الفقري للحكايات، القصص،
الأمثال والأحاجي الشعبية وفي الطقوس أيضا. إن الذي نستخلصه من حضور المرأة في كل صنوف
الإبداع الأدبي والثقافي الصحراوي هو انعكاس لمكانتها جد المعتبرة في مجتمعها
القديم والحديث.. ولم يقتصر حضورها على الأدب فقط بل نجد لها الكثير من الصور التي
تستلزم الوقوف عندها في العادات والتقاليد الصحراوية والطقوس وهو ما لم يحصل مع الرجل.
فمثلا حين نعالج
موضوع الأقوال الشعبية الصحراوية – أحبذ استعمال مصطلح القول الشعبي بدل المثل
الشعبي- لا بد نكتشف أن ما خُصص منها للمرأة هو أكثر منه بكثير ما تم تخصيصه للرجل.
فهناك قول صحراوي يجسد صبر المرأة يقول" لمرا تكد تبني ياسر من لخيام والراجل
ما إكد يبني وحدة." ( المرأة تستطيع أن تبني أكثر من خيمة في حين أن الرجل لا
يستطيع أن يبني واحدة.) والمُراد من هذا القول أن الرجل رغم قوته الجسدية وادعائه
التفوق على المرأة في كل شيء إلا أنه يفتقد قوة طبيعية أخرى لا تمتلكها إلا المرأة
هي قوة الصبر والجلد؛ فكما نعرف جميعا فإن نسج وصناعة خيمة من الوبر هو مهمة في
غاية الصعوبة والتعقيد وتحتاج زمنا طويلا من المعاناة وبرودة الأعصاب. وإذا كنا
نعتقد أن هذا ليس هو التفسير المقصود لهذا القول فغنه من جهة أخرى قد يعني، وهذا
هو الأرجح، أن المرأة بصبرها ولباقتها تستطيع أن تنظم وتتحكم في تسيير مخيم عائلة
كبيرة من الأبناء والبنات وهو ما لا يستطيع الرجل القيام.
وإذا كان الذين لا
يعرفون الصحراء ينظرون إلى المرأة في هذه المنطقة على أساس أنها في مرتبة أدنى من
مرتبة الرجل بحكم التخلف التقني، فإن الصحراويين، حسب ما وصل إلينا من أمثالهم
وأقوالهم ينظرون إلى المرأة على أساس أنها تقف كتفا كتف إلى جانب الرجل. فمن بين
ما يقولون عن الخيمة " أن الأب والأم هما الركيزتان، وأن الأبناء الذكور هم
أعمدة الخيمة التي ترفعها وأن البنات هن الأوتاد." وهذا القول الصحراوي يعكس
أن المجتمع الصحراوي البدوي كان ينظر إلى أن دور الرجل والمرأة في الخيمة على أساس
أنهما متساويان ؛ أي أن الرجل يمثل إحدى الركائز والمرأة تمثل الركيزة الثانية.
هذا يرمز إلى نوع من المساواة قد لا يكون بالضرورة ماديا مثلما هو حال الركيزتين
اللتين تقف عليهما الخيمة.
في قول آخر نجد ما
يلي:" للي شق الراجل ترقعو لمرا( ما يمزقه الرجل يمكن أن ترقعه المرأة"
أي ما أن أفسده الرجل في الأسرة يمكن أن تعالجه المرأة بصبرها وحنكتها"
وفي هذا القول يمكن
أن نستخلص إن دور المرأة في المجتمع الصحراوي هو دور بِناء وإصلاح على عكس الرجل
الذي قد لا يبالي بأشياء كثيرة في محيطه. وفي مكان آخر يقولون " خيمة ما فيها
امرأة يموت ضيفها من الجوع" ( خيمة لا توجد فيها امرأة سيموت ضيوفها من الجوع."
إن المعنى المضمر في هذا المثل هو أن أية خيمة لا توجد فيها امرأة فإن الحياة
والكرم وحسن الضيافة معدومة فيها. وحتى لو كان الرجل موجودا في الخيمة وموجود الأكل
وكل شيء إلا إن هناك بعض الخدمات المهمة التي لا تقوم بها إلا المرأة وحدها؛ إنه اعتراف
ضمني من طرف المجتمع أن دور العائلة لا يكتمل في المجتمع إلا بحضور المرأة.
وفي قول قريب من هذا
نجد ما يلي:" إلى بقيت العيال يشبع جوع امو(أمه)" أو يوجد على شاكلة
أخرى" إلى شبع العيال تجوع امو(أمه)" أي أن الأم تفرط في نفسها من اجل
إن يشبع ويرتاح عيالها. فهي لا تهتم بنفسها ولا تتغذى أو تنام حتى توفر كل ما
تريده عائلتها.
في
هذا الإطار يقول الصحراويون:" اللي مات بوه يتوسد الركبة واللي ماتت امو
يتوسد العتبة" ) ( من مات أبوه يتوسد الركبة ومن ماتت أمه يتوسد عتبة الدار
أو الخيمة) ومعناه أن من مات أبوه تصبغ عليه أمه الكثير من الحنان وتبقيه دائما
قريبا منها متوسدا ركبتها، أما من ماتت أمه فإن مصيره الطرد والإهمال وتوسد
العتبة.
ويحتفي
المجتمع الصحراوي كثيرا بالبنت، فهي في نظره ركيزة أساسية في العائلة. في هذا
الصدد يقول الصحراويون:" اللي بلا منات ما يعرف الناس اينت مات"( من لا
بنات له لا يعرف الناس متى مات) أي أن من لا بنات له يقمن به ويعاملنه معاملة حسنة
ويبكين لموته حتى يسمعهن الناس لن يشعر الناس بموته. في تفسير أخر يعتقد البعض إن
أصل المثل هو : " اللي بلا امنات ما يعرف الرجالة اينت مات" أي إن أية
أسرة لها الكثير من البنات فإن الناس، خاصة الرجال، سيعرفونها وسيترددون عليها،
وأن البنات سيتزوجن من الكثير من الرجال الذين سيعرفون الأسرة، أما الأسرة التي لا
بنات لها فلن يعلم أحد بها ولن يتردد عليها أحد. .
وتكثر
الأمثال والحكم والأقوال التي تحتفي بالمرأة حتى لا يكاد أي باحث أن يحصيها. فمن
هذه الأمثال ما يمجد المرأة الأنثى ومنها ما يبني تطيره منها على معتقدات راسخة.
في المثل الذي يقول" الناثي إلى كثرو ما هم في البل ولا الغنم" أي أن
كثرة الأنات عند عائلة لا تجلب الغناء ولا الثراء لتلك العائلة؛ فكثرة البنات لا
تعني بأي حال كثرة الإناث في الإبل والغنم. فالإناث من الإبل والغنم لا تباع ولا
تذبح ولا تعطى لإنها تلد وهي أهم عند البدو من الجِمال والكباش الذكور، أما إناث
البشر فهن سيذهبن ذات يوم إلى أنسابهن بعد أن يصرف عليهن الأهل كثيرا من المال.
ويظن
الصحراويون،الرجال والنساء على حد سواء، إن ما يكسبه الرجل من مهارات وحذق وما
يرثه من مواهب فإن الفضل يرجع فيه بالدرجة الأولى إلى الأم. فمثلا حين يُقدم رجل
ما على القيام بفعل بطولي فيصيب هدفا في الرماية مثلا أو يغلب الآخرين في سباق أو
ينقذ أحدا يقولون له" مخل أمك" ( أية امرأة عظيمة هي أمك" أو
يقولون له" مخل بزولة رضعتها" ( عظيم هو الثدي الذي أرضعك)، أو يقولون
له " ولد لعليات"،" ابن نساء" وفي هذا القول الأخير ( ابن
نساء) ليس تقليلا من قيمته مثلما قد يفهم، لكن تقديرا له.
ورغم التقدير الذي
يعامل به المجتمع الصحراوي المرأة، حسب ما وصل إلينا من أدب شفهي إلا أن المجتمع
الذكوري، في زمن ما، كان يستحضر دائما، حين يريد الحديث عن ضعف المرأة، قصة آدم
وحواء. فحين يريد الرجل التعبير عن ضعف المرأة الجسدي وعدم قدرتها على التحمل في الصحراء
يقول أنها " ظلعجة عوجاء" ( ضلع أعوج) ومصدر هذا القول هو المعتقد
الديني الذي يقول إن الله سبحانه وتعالى خلق حواء( المرأة) من احد أضلاع آدم( الرجل).
وحين يجتمع الرجال مع
بعضهم البعض في مجالس لهوهم في الصحراء يصفون المرأة أيضا بأنها " ولية"
( محتاجة وضعيفة ويجب معاملتها برفق ولطف). لكن مع هذا كله، كان الرجل الصحراوي،
حفاظا منه على عدم جرح مشاعر المرأة، لا يقول للمرأة وجها لوجه -لا إذا كان في
إطار المزاح- " أنها ضلع اعوج" أو " أنها ولية".
ومن المتداول عند
المجتمع الرجالي الصحراوي نجد القول الآتي " معرفة الأرض راحة، معرفة الرجال
كنز ومعرفة النساء فظاحة( فضيحة)" بمعنى " أن من يعرف مجاهل الأرض(
الصحراء) فهو مرتاح وغير خائف من التيه، ومن يعرف الرجال فإن ذلك يفيده مستقبلا
حين يفكر يحتاج إليهم، أما معرفة النساء فهي فضيحة، لكن هنا لا يجب إن نظن أن ذلك
تشويها لصورة المرأة. إن كلمة "فضيحة" المستعملة في المثل تعني أنه حين
يلتقي شخص بامرأة ما يعرفها فإنه إذا لم يهتم بها ويوصلها ويعطيها كل ما تريد أو
تبحث عنه فإنه سيفضح أمام الناس. بمعنى أخر إن الرجل سيظل دائما مقصرا في حق
المرأة حتى لو بذل كل جهده.
يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء