تقترب الطائرة من الأرض، تزداد نبضات قلبه عنفا؛
حوافر مُهر بري تدق في صحراء من العطش. الذين يجلسون قربه في الطائرة لا شك أنهم
سمعوه حتى لو لم يصغوا جيدا. " المدينة التي خرجت منها كي أسكن مع الصقور فوق
قمة الجبل... هناك كانت الخنادق محفورة.. ثوار الصحراء قائمين.. صعدنا الجبال سكنا
القمم. الألحان لا يرددها بشر في هذه اللحظة، لكن ترددها السماء.. أو عفوا يرددها
الشهداء... استغفر الله."
وينظر إلى أشياء المدينة فيظن أنها تتظاهر:
أسلاك الكهرباء، الأعمدة، الجدران والتربة. كل ما فيها يتظاهر.
الذين استقبلوه أغرقوه في دموعهم وزغاريدهم.
مناضلون متقاعدون، ثوار قدماء كانوا يحاربون معه الاستعمار الأول وحاربوا
الاستعمار الثاني في شوارع مدينتهم.. هو معروف هنا في هذه المدينة. المدينة أيضا
لا تنكره ولا تتنكر له. هو جزء من تاريخها، جزء من تراثها، جزء من ترابها، من
حلمها، من ماضيها، من فسيفسائها... بين المستقبلين لم يبصر صديق عمره الذي بقى
مناضلا في المدينة. كتم السؤال عنه. غيابه جَرح لحظة كبيرة كان يتمناها. بدد موجة
فرح كان يريد أن تغمره، تغرقه، تبلله. " قد يكون مات اليوم قبل أن أصل، أو قد
يكون أعتقل اليوم أيضا. بالأمس فقط هاتفني كي يخبرني أنه سيكون في انتظاري".
استقبلوه بحفاوة كبيرة.
الدار هي ذاتها. من الخارج
تبدو شاحبة؛ رمز للمدينة المحتلة، للوطن كله. في الصالون شم رائحة عطور قديمة
وأبخرة كان يشمها. رائحة تخرج من مسام الجدار؛ من مسام الماضي. من الغرفة المجاورة
سمع صوت ماكينة تخيط شيئا ما. خفق قلبه بعنف حتى كاد يتوقف..يحمله التاريخ على
جناحيه الأزرقين بعيدا، خلف أسوار الكثير من السنوات، خلف الغيوم" هنا أيضا
تركنا ماكينة الخياطة الكبيرة". فجأة تتوقف الماكينة، يخرج صديقه الذي كان
يود رؤيته بين المستقبلين من الغرفة حاملا علما كبيرا ويلفه به. ينتزعه من بين
أحضان الناس ويقوده إلى الغرفة التي توجد فيها الماكينة. لا زالت كما هي قوية،
صوتها قوي ولازالت تخيط الأعلام. ونظر إلى صديقه بين أحضانه. بدأ أنه تغير كثير من
الخارج، لكنه لا زال يخيط الأعلام. حين جلسوا في غرفة الخياطة أو غرفة الماكينة ،كما
كانوا يسمونها قديما، بدأ الحديث عن ماكينة الخياطة فقط... ويسأل موجها السؤال إلى
صديقه: " آلا زلتَ تخيط الأعلام..؟ " وتأتي الأجوبة من جميع الجهات..
تقول زوجته: أتظن أنه أصبح يخيط فساتين العرائس.؟ ويضحكون بعمق. يقول رجل
بجد:" لقد تقاعد منذ سنوات.. ابنه الآن هو الذي يخيط الأعلام الوطنية حين
تريد المدينة تنظيم أي مظاهرة. " ويقول أخر:"، هو الآن يعلم الناس كيف
يخيطون الأعلام." ويضحكون جميعا حتى تسيل الدموع من عيونهم. وتقول
زوجته:" دخل السجن كثيرا بسبب هذه الماكينة. في الكثير من الأحيان يدخل السجن
مرتين في العام." ويضحك هو منتزعا لحظة فرح من دموع الواقع..
وينظر هو إلى الماكينة
الرابضة في زاوية الدار. يتصورها تسلِّم عليه، يظن في ذهنه أنها تقول له أنها
لازالت قوية صامدة رغم مرور سنوات كثيرة. يحس ببعض الاطمئنان والفخر يسري في دمه
ويسقي روحه الجافة. نفس الماكينة، نفس كومة القماش الملون التي كانت هنا يوم رحيله من المدينة إلى الجبل.
ويقول له رجل:" سجنوه وسجنوه، لكنه انتصر في الأخير. صار يستطيع أن يخيط
الأعلام في أي وقت شاء. لقد انتصر على الاحتلال."
وينظر الرجل إلى صديقه مثلما
نظر إلى الماكينة. لازال يحمل عمقا ثوريا مناضلا. في عينيه قوة عجيبة لم يفقدها
الزمن قدرتها على المقاومة. ويسألهم:" لكنكم قلتم لي أنه تقاعد وان ابنه هو
الذي يخيط أعلام المدينة الآن، وقبل قليل خرج من ذات الغرفة التي كان يخيط فيها
هذا العلم الذي يلفني"؟
وتقول زوجته: " هذه أول
مرة منذ سنوات يخيط علما. كان يريد إن يعلق على عنقك علما أخاطه هو. إنه فخر كبير
بالنسبة له زيارتك، ولا يريد أن يفوز شخص أخر بخياطة هذا العلم التاريخي."
ولم ينتبه الناس أن أحاديثهم كلها تركزت حول
ماكينة الخياطة، وأن الوقت تقدم في جوف الليل. حديث عن منعِ شراء القماش الملون
الذي تخاط منه الأعلام؛ حديث حتى عن منع الصغار من شراء الألوان والأقلام الملونة.
يقول أحدهم:" الاحتلال يريد مدينتنا أن لا يدخلها أي لون ما عدا اللون
الأحمر."
ناموا
جميعا، وفي منتصف الليل استيقظ الزائر على صوت الماكينة تعمل. تذكر السنوات
الخوالي فقام متسللا ليرى ماذا يخيطون في هذه الساعة المتأخرة من الليل. نظر من
ثقب الباب. كان الابن الشاب يخيط أعلاما وطنية كثيرة، وفي الخارج كانت هناك أصوات.
فتح النافذة، كانت هناك مجموعة من الشباب تحمل أعلاما وطنية كثيرة. كانوا يكتبون
ويعلقون أعلامهم في كل مكان من المدينة. وفي الجو تتسرب رائحة كان يشمها حين كان
يقيم في هذه البيت مع صديقه.
انتهت الزيارة. حمل العلم الكبير كهدية غالية.
كان يفكر أن يهديه للمرأة التي تعَوَّدَ المخيم على رؤيتها تحمل علما كبيرا في كل
الذكريات.
يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء