بوح ذاكرة صورة( قصة قصيرة)

Resultado de imagen de aiuun 1975 sahara manifistacionesهذه الصورة المصلوبة على وجه هذا الجدار الجاف المغبر تنظرإلى المارين دائما بعينيين مستيقظتين. تنظر إليهم وتتكلم معهم، أو تكلمهم بصوت غير مسموع.. يوميا يُوًقع عليها الناس بمئات النظرات أو يلطمونها بعيونهم كلما دخلوا أو خرجوا من هذا المكان. لا أحد فكَّر أنها،- نظرا لقِدَمِها- يمكن أن يومض شرر ذاكرتها ذات يوم.
هي مجرد صورة التقطت بالأبيض والأسود منذ أكثر من ثلاثين سنة في زاوية شارع في شوارع مدينة العيون. بطاقة هويتها الباهتة بفعل وقْعِ الزمن البطيء تقول أنها التُقطت في مايو سنة 1975م، إبان المظاهرات التي ألهبت فضاء الصحراء الغربية الجغرافي حينما زارتها البعثة الأممية.  عُلقت هنا على هذا الجدار منذ زمن كعلامة للتمسك بلقطة محنطة للوطن حتى لا يتسرب التاريخ من مسام وثقوب الذاكرة كالهواء. الصورة بقيت صامدة، ثابتة، جامدة أما أهلها، فقطعا، دحرجتهم موجات الزمن العاتية إلى الأمام وغيًرتهم كثيرا دون عِلم منهم. تقاذفتهم، بدون شك وبدون رحمة أيضا، أيادي التفرق: من لجوء إلى لجوء، من منفى إلى منفى ومن برد غربة إلى برد غربة أشد شراسة منه. سافروا في السماء والأرض والماء، تقاذفتهم المطارات، الموانئ، جلدتهم عيون رجال الأمن والشرطة، رأوا كل شيء في العالم المبهر، سمعوا كل شيء، قرؤوا كل شيء تقريبا وبكل اللغات، استشهدوا، جُرحوا، ماتوا أو حتى تراجعوا، لكن ظلوا يحملون جرحهم الذي ظل يقطر باستمرار في دواخلهم، يحتضنون- مرغمين- قلقهم في عمقهم: وطن محتل، لكنه وطن...

*********
ذات يوم حدثت انتفاضة في ذاكرة الصورة. تردد رجعُ الصدى. سطع شعاع باهر مدمر أشعل الضوء في نفق ماضيها. يدخل عبدالله، جريح الحرب، إلى المكان أول مرة على ما يبدو. ينظر إلى الجدار الذي تلجأ أو تُنفى فيه الصورة منذ زمن يُحسب بالسنوات. يتوقف أمامها، ربما لا إراديا. يذوب جليد الزمن الذي يحنطها. يُحي جمادها، جغرافيتها، تاريخها، بقاياها. يتنهد الرجل مخرجا شبه زفرة ساخنة:" مسيكينة العيون. مظاهرة 1975م"
ويدخل مثل العشرات يوميا، بعد أن وقًع عليها بعينيه طويلا هو الآخر. لا بد أن من سمعه في تلك اللحظة نظر إلى الصورة نظرة غير التي كان ينظر بها إليها في الماضي..
الصورة أيضا بدأت ذاكرتها تصهل في عيون وأذهان الذين نظروا إليها في تلك اللحظة المسرعة نحو الماضي. رجعُ صدى جبل شاهق من التاريخ الذي هرب إلى الماضي.. هذا الجمع الغفير الذي جمدته الصورة زمنا طويلا يصرخ من جديد مطالبا بالحرية. " يخرج الاستعمار،fuera España   ، الصحراء ليست مغربية ولا موريتانية ولا أسبانية، الصحراء حرة ".هاهي هذه العبارات مكتوبة على اللافتات وعلى أرضية الشارع واضحة في أسفل الصورة وتمكن قراءتها بسهولة. لا بد أن الأصوات قوية، مجلجلة، تُخرج ما في صدور أهلها من صهد الغضب؛ صهد الإحساس بالظلم، بالقهر. الأيادي في الصورة تلوح بالعلم الوطني الصحراوي، ترفع إشارة النصر أو الشهادة..
أثناء خروج عبدالله من المكان توقف عند الصورة من جديد:" مساكين هؤلاء الناس الموجودين في الصورة. خدعهم العالم مئة مرة، ذبحهم ألف مرة. البعثة في أيام حارة من شهر أيار( مايو) 1975م. كان هؤلاء يظنون أنها حقيقة وأن لِلون علمها الأزرق دلالة فنية.  ظنوا أنها ستعيد إليهم حقهم الذي سرقته منهم قوة المؤامرات، لكنها لم تفعل أكثر من أن التقطت لهم الكثير من الصور وسودت الكثير من الصفحات البيضاء كتقارير. النتيجة كانت المزيد من الظلم، الاحتقار، الاستعمار والتشتيت، اللجوء، الغربة، سرقة الثروات، الإمعان في الظلم. لم يأتي السلام الذي بشرتهم به.. كان السلام حَملا كاذبا لعالم عاقر أصلا، لا ينجب إلا المؤامرات والكذب والضحك على أذهان الضعفاء والصغار.
وهؤلاء الناس الذين في الصورة أين ذهبوا الآن. ؟ لا شك إن شعور الأحياء منهم أصبحت بيضاء، ووجوههم صارت مجعدة.  هؤلاء الرجال السمر إلى أين حملهم جناح الغدر.؟ أكثريتهم في الصورة في فجر العمر وسحر الحياة. لا شك أن أكثريتهم امتشقت سلاح القضية وذهبوا إلى القتال الذي لا يعرف كل الرجال، للأسف، ما معناه.!! قد يكون بعضهم استشهد وصعد إلى العلياء ليشرق دائما مع الصباح..  هذا ولا شك... بعضهم بكل تأكيد لا زال محتضنا سلاحه في انتظار حرب أخرى لا مفر من عودتها الآن. بعضهم قد يكون بقى في المدن المحتلة وعاد إلى هذا المكان مرة أخرى متظاهرا ضد الاحتلال.  منهم من يكون قد دخل سجن الاحتلال وقضى فيه أو خرج منه ليقضي في الشارع...
ويمتص الجدار التي تسكنه الصورة الأصوات فتتجمد مرة أخرى. يجمد الضجيج والخيالات والأوهام ويفتح الواقع عينيه. تموت الحركة في ذاكرة الصورة، وتعود مجرد ذكرى عُلقت هنا لرشوة الوطن بحب بعيد له، أو لاحتضانه والتعلق بذكرياته المشتتة.
تتسابق خيالات أخرى إلى الذهن الذي لم يكن قد صفا تماما. يصبح الشارع الذي التُقطت فيه الصورة بطلا جديدا بدل الصورة. لا شك أن الشارع لا زال يحتفل بذاكرته وذكرياته، ولا زال الناس في هذه المدينة المحتلة يحجون إليه كل يوم يتظاهرون ضد الاحتلال يكتبون نفس الشعارات ويرفعون نفس العلم..
                     


يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء

:)
:(
=(
^_^
:D
=D
=)D
|o|
@@,
;)
:-bd
:-d
:p
:ng