الترية( قصة قصيرة)

*

Resultado de imagen de combatiente saharaui polisarioالذي لاحظه سكان مخيمنا الذين اجتمعوا لاستقبال المقاتلين العائدين بعد وقف إطلاق النار، هو أن الكثير من هؤلاء نزع عنه تريته قبل إن ينزل من الشاحنات. كانت أول إجازة طويلة لهؤلاء الأسود بعد الحرب. لاحظنا أيضا أنه في اليوم الأول للإجازة، لم يتجول أي مقاتل في المخيم بتريته ما عدا مجموعة قليلة.. في اليوم الثاني للإجازة لم يلحظ سكان مخيمنا أي مقاتل يتجول بين الخيام لابسا ترية ما عدا أحمد.. كانوا يلبسون الدراريع، العباءات أو الملابس المدنية. أيام بعد ذلك وصلتنا أخبار تقول أنه لم يعد أي أحد يلبس الترية ما عدا في الناحية فقط. وقت قليل بعد هذا الحدث، أصبح بعض المقاتلين يذهب إلى الناحية بلباس مدني. في وقت أخر أصبحت الترية لا تُلبس إلا وقت الاستعراضات أو الاجتماعات الرسمية في وزارة الدفاع. .
وحده أحمد بقى لابسا تريته. إصراره على لبس الترية، دائما،  جعله يظهر في عيون سكان مخيمنا غريبا. بقى وحده يلبس الترية وسط غابة من الألوان المتناقضة. أصبح شبه ظاهرة: شخص واحد يلبس  ترية في كرنفال من الملابس الملونة. كان يلبسها في أي مكان تواجد فيه. كأنما كان يعاند الزمن وتقلب الناس. حتى بعد مُضي عشرين عاما على وقف إطلاق النار لم ينزع الترية عن جسده. خلال هذه السنوات لم تتوقف عيون الناس وألسنتهم عن متابعته. كان السكان يرونه لابسا تريته في الناحية، في المخيم، في الرابوني، في المرسى. وباختصار: كان يلبسها في كل مكان وفي كل زمان. كان يلبسها في الصيف حين يتمنى الناس التخلص من جلوهم بفعل الحر. يلبسها في الشتاء حين يحلم الناس لو لبسوا كل ما على وجه الأرض من أغطية صوفية.. وكان أيضا يلبسها حين تهب الريح؛ ويلبسها حين يعقد مجلس الأمن اجتماعا يبحث فيه نتائج المفاوضات والسلام. وكان يلبسها حين يغضب مقاتلو المخيم، ويقسمون أن يعودوا للحرب. كان يلبسها حين تنظم العريفات في مخيمنا مهرجانا فلكلوريا للملابس التقليدية، أو حملة نظافة أو استعراض، أو حتى حين ينظمون مظاهرة تطالب الأمم المتحدة بتطبيق مخطط السلام.
صبر سكان مخيمنا كثيرا على رؤية أحمد لابسا تريته يتجول بها في كل مكان. كانت صدورهم تمتلئ كل يوم بالكلام، لكنهم كانوا يكتمونه احتراما لتاريخ الرجل القتالي. كانوا كلهم، تقريبا، متحفزين للحديث،لكنهم كانوا يؤجلون ذلك كل مرة. وكبالون أنتفخ أكثر من اللازم بالهواء أنفجر صبر السكان دفعة واحدة. . أصبحوا يقولون عنه: "يلبس ترية في مخيم ينتظر السلام."، أطلقوا عليه اسم الترية... المتعسكر.. الجنرال، وفي الأخير ألصقوا به اسم  الترية.         

في أحد الأيام مرَّ أحمد الترية من وسط المرسى، فقال أحد التجار: حياتك يالجيش، لماذا لا ينزع هذا الرجل عنه هذه الترية ".
سمعه أحمد  الترية فالتفت نحوه. كان يود أن يُسمعه محاضرة طويلة عن تاريخ الترية، الجيش والمقاتلين، لكنه أحجم. أحس أنه ليس في مستوى هذا الشخص النكرة المختفي في بيت من الطوب يعد النقود.
 
الناس يميزونه من بعيد من بين كل من يلبس ملابس عسكرية..بالإضافة إلى انه يلبس الترية هو طويل القامة وشامخ. يبدو وسط الخلق مثل جذع أخضر وسط غابة تحتفل فيها الألوان.أصبح معروفا في كل المخيمات. أصبحوا حتى يضربون به المثل. يقولون: مثل أحمد  الترية.. ما عندوا ما هو تريتو".                    
 في الاحتفالات والذكريات يلبس ترية جديدة دائما. يتحلق حوله الناس، خاصة الشبان، يسألونه عن متى لبس الترية أول مرة؟؛ كيف قرر إن يلبسها دائما؟؛ لماذا لم ينزعها حين انتهت الحرب؟؛ لماذا لا يلبس الدراعة.؟ كان حين يسألونه يعيد عليهم نفس الحكاية التي يكرر كل يوم: " أول مرة رأيت الترية كانت في سنة 1976م. وزعوا علينا تريات مكتوب عليها "أمغالا". نزعنا عنا لغنادير الصفراء التي كنا نلبسها في سنوات الحرب الأولى. لبسنا التريات... لبسناها لنرفع بها العلم في مكان محرر، نسيت اسمه الآن. قبل إن نرفع العلم ونردد النشيد، قرأ علينا المحافظ العسكري محاضرة طويلة وعريضة عن العلم الوطني: مقدس، يرمز للشهداء، اللون الأخضر يرمز للخيرات والأبيض للسلم، المثلث الأحمر يرمز لدم الشهداء، الأسود يرمز للاستعمار؛ يجب الاستعداد للعلم وقت رفعه ووقت خفضه، لا يتكلم أحد، لا يحك، لا يلتفت وإذا أمكن أن لا يتنفس فذلك أفضل. لا يَرفعُ العلم إلا شخصا يلبس الترية.  الترية هي بذلة الشرف، هي الانضباط، مسكها دخان المعارك والغبار. ولأنني كنت من أطول المقاتلين يومها – يقول أحمد الترية- فقد طلب مني قائد الكتيبة، أنا وصديق لي، أن نلبس الترية لنرفع بها العلم."
وحين يتحدث عنه المقاتل المري للناس يقول لهم:" إن أسئلة الناس له عن علاقته بالترية جعلته يشعر بالكثير من الفخر."
في مرحلة ما لم يعد ينتظر إن يسأله احد عن الترية، البذلة. كان يستغل كل مجلس ليتحدث للناس عنها بزهو زائد. كان يتحدث عنها في سيارة باساجا، في المرسى، في الرابوني، أمام وزارة الدفاع وفي كل مكان.  فمرة يقول: " كنت أنا وزميل لي أول صحراويين يلبسان الترية" ثم لا يلبث إن يستدرك: " في الحقيقة أنا لبستها قبله بثواني" ويضحك. أحبُّ الجلسات إلى قلبه هي التقائه بأصدقائه القدامى من المقاتلين المتقاعدين. كانوا حين يجتمعون عند الكنترول أو في المرسى أو أمام وزارة الدفاع ينتظرون المصروف الشهري، يتذكرون كل ما كان يجمعهم من حلو ومرِ. يقول له أحدهم: " كنا نقول إن الترية أصبحت جزء من شخصيتك." ويقول له أخر:" كنا نقول أنها أصبحت ملتصقة جلدك." ويضحكون جميعا من قلوبهم حتى تبتل عيونهم بالدمع.
وفي مجلس أخر يقول عنه عبدالله،  أحد جرحى الحرب:" كان لا ينزع عنه الترية إلا بعد أن تُحول الشمس والصابون لونها من أخضر إلى أصفر، أو حين تتمزق فوق جلده. كان حتى ينام بها"
ويسأله علي المري مرة: إذا قلت لي يا أحمد كم ترية أفنيت منذ بداية الحرب إلى الآن أعطيك مئة مليون." يقول له أحمد الترية: "كل عام كنت ألبس تريتين. منذ بداية سنة ستة وسبعين إلى الآن حوالي ثلاثة وثلاثين سنة. بعملية حسابية بسيطة حوالي ستة وستين ترية"
ويقول له الآخر: إذا أقسمت لي أنها ستة وستين ترية أعطيك المئة مليون الآن."
ويقول هو: في الحقيقة لا أعرف، لكن هي تريات كثيرات.
في خيمته يحتفظ بكل الصور التي يظهر فيها لابسا ترية. وهناك حتى لوحة رسمها له الطفل عبدو بالترية أيضا.
                                          
وحين يقول شخص ما بشفقة: "مسكين أحمد الترية. لماذا لا ينزع نه هذه الخنشة الحامية التي يلبس"؟ يجبه شخص آخر: "لا تنسى أن الترية البذلة، في زمن ماضي، كانت مهمة جدا في حياة سكان مخيمنا. كان الجميع تقريبا يلبسها: المقاتلون، الرجال، الأطفال وحتى النساء. كانت رمزا للعمل، رمزا للتعبئة ورمزا للتأهب للقتال."
ويرحلون بذكرياتهم إلى تذكر الزمن الذي حلت فيه الترية محل الدراعة والملحفة. يقول سعيد، جريح الحرب: "كان كل شخص في المخيم يملك ترية. لا يستطيع أي أحد أن يقول أنه لم يلبسها في يوم ما. كانوا حتى يتغنون بها" يحاول أن يتذكر. يعجز قليلا..تنجده ذاكرته في الأخير بأبيات شعرية.
انت يالبذلة في الميدان   ما كط فصلت في التمساك
مسكك لقتناع وليمان    والشرف كافي من لمساك   
ويقول عبدالله: " الترية، البذلة كانت هي الموضة.. هي لباس الجميع. كانت هي الزي الرسمي"."  
ويقول شخص مجهول عند المحطة حين يسمع أحدا ما يتعجب من أحمد الترية الذي يلبس بذلة عسكرية في الصيف:" كنا كلنا نلبسها في الصيف والحمان. الآن صرنا نسخر ممن يلبسها. حتى مسئولي مخيمنا كانوا يلبسونها... كانوا لا يحضرون إلى الاحتفالات والاستعراضات إلا لابسينها."
ويجبه شخص آخر من أول الصف بعد أن سمع حديثه:" أنسيتم الحمى التي أصابت مخيمنا حين ظهرت فيه التريات. أنسيتم  تريات ليبيا، تريات أمريكيا، تريات روسيا. التريات الجديدة كانت حلما جميلا يرفرف في أذهاننا.. من منا لا يتذكر الترية الرقطاء الأمريكية. الكل كان يحلم بها."  
الترية الأمريكية. لغز. لا يعرف أحد بالضبط كيف ظهرت الترية الأمريكية في مخيمنا المنسي، لكن الكل متفق إن مسئولي مخيمنا كانوا أول من لبسها."
يقول الشيخ الذي يحرس الإدارة في جلسة أخرى:" في إحدى الاحتفالات رأى الناس بعضا من مسئولي مخيمنا يلبسون تريات رقطاء جميلة. كانت تريات براقة ومغرية إلى درجة أن الجميع تعلق بها". وحسب ما يتذكر أحمد الترية نفسه، فإن: " كان الناس حين يعلمون أن شخصا ما مسافرا إلى الخارج يوصونه إن يجلب لهم ترية أمريكية."
ويسأله موسطاش: " وأنت هل لبست في حياتك ترية أمريكية."
لا يتذكر أحمد الترية هل فعل ذلك أم لا.
 يمر الوقت متقلبا، بطيئا، ويبقى أحمد الترية لابسا تريته كأنما لا يحس بحركة الزمن ولا بالتغيرات. لا يمل من الحديث عن تاريخ  تريته. لا يترك فرصة إلا وتحدث عنها، خاصة أمام الشباب. هؤلاء أيضا أصبحوا يلتقطون الصور معه كأنما هو تمثال أثري خالد من زمن ماضي. يرفعون أيديهم محيينه تحية عسكرية.. يستعدون حين يمر بالقرب منهم. وحين يرى بعض أصدقائه القدامى هؤلاء الشبان يلتقطون معه الصور، يقولون له: من الأفضل أن نضعك في المتحف العسكري".
ويضحكون من جديد.
يمضي هو لشأنه. في أحد الأيام رأيناه يرفع العلم وحيدا صباحا عند الإدارة. في المساء رأيناه يخفضه - وحيدا أيضا- ثم يحييه وينصرف. شاع الخبر في المخيم: "احمد الترية خلق لنفسه مهمة جديدة في المخيم. أصبح يرفع العلم في الساحة أمام باب الإدارة."
 على الساعة السابعة كل يوم يتوجه إلى مقر الدائرة وحده، يرفع العلم، يحييه، ثم ينصرف. في المساء أيضا يقوم بخفضه. حين يبصر شخصا ما لابسا لباسا مدنيا يرفع العلم أو يخفضه في مؤسسة أو في مخيم يغضب. يوبخ الجميع؛ يبصق اتجاه وجوههم، يذكرهم إن العلم مقدس ولا يمسه إلا من يلبس ترية. يذكرهم، أيضا، إلى ماذا يرمز كل لون من ألوانه، ثم يحي العلم تحية عسكرية وينصرف.         
ـــــــــــــــــ
*الترية: هي البذلة العسكرية عند الصحراويين وأصلها فرنسي treillis.

يرجى تسجيل تعليقات ذات قيمة حتى يمكن ادراجها في الموقع الإبتساماتإخفاء